يتذكر دراوزيو فاريلا -الذي ترعرع عندما كان طفلاً في ساو باولو خلال أربعينيات القرن الماضي- جدته وهي تحكي له كيف عصفت الإنفلونزا الإسبانية بجالية المهاجرين من ذوي الياقات الزرقاء في المكان الذي وصفوه بأنه وطنهم.
تذكر فاريلا، الذي صار لاحقاً أشهر طبيب في البرازيل، وقال لصحيفة The Guardian البريطانية: "مات عديد من الناس لدرجة أن العائلات كانت تترك الأشخاص في الخارج على الأرصفة، وفي الصباح الباكر من كل يوم، كانت تصل عربات الجر لتجمع الجثث وتلقي بها لتدفن في مقابر جماعية".
الكارثة تتعمق والدولة في حالة اضطراب
وبعد مرور أكثر من قرن على فاجعة عام 1918، تهتز أكبر دولة في أمريكا الجنوبية بسبب الجائحة المدمرة، بينما يظهر فاريلا في حالة ذهول. قال طبيب الأورام البالغ من العمر 77 عاماً، وهو أيضاً مؤلف ومذيع تلفزيوني: "لم يعتقد أحد أن هذا يمكن أن يحدث. ربما تخيلوا نظرياً أن نوعاً من الفيروسات قد يأتي. ولكن حتى عندما ظهر الفيروس، لم نعتقد أنه سوف يسبب مأساة بهذا القدر".
وبينما تتعمق الكارثة، يزيد الغضب من سلوك الرئيسي البرازيلي جايير بولسونارو، الذي تعامل مع الجائحة بطريقة مضطربة ومختلة ووصفها بأنها "خيال"، ما جعل كثيراً من استجابات الدول الأخرى التي تعرضت لانتقادات، تبدو رصينة وفعالة عند مقارنتها باستجابة الرئيس البرازيلي.
يقول دانيال دورادو، خبير الصحة العامة والمحامي في جامعة ساو باولو: "هذه أسوأ أزمة صحة عامة واجهناها، وجاءت في الوقت الذي تحكمنا خلاله أسوأ حكومة في العالم". ويعتقد دورادو أنه كان من الممكن إنقاذ حياة آلاف من الأشخاص من خلال استجابة أسرع وأقل تقلباً. وأضاف قائلاً: "البلاد تنجرف".
ما أشبه اليوم بالأمس
ثمة أوجه تشابه غريبة ومؤلمة بين تأثير الإنفلونزا الإسبانية -التي يقول المؤرخون إنها قتلت بين 35 ألف برازيلي و100 ألف برازيلي- وبين الضرر الذي تُلحقه جائحة فيروس كورونا الآن.
قال كلاوديو برتولي فيلهو، الذي ألف كتاباً عن جائحة 1918، إن قادة البرازيل آنذاك قللوا في البداية من أهمية الإنفلونزا المجهولة، مثلما فعل بولسونارو عندما أنكر خطورة فيروس كورونا ووصفه بأنه "دور برد بسيط".
ثم حاولت السلطات حينها كذلك إخفاء التأثير الحقيقي للكارثة –تماماً مثل الاتهامات التي وُجهت إلى وزير الصحة في حكومة بولسونارو- إلى أن جعل تصميم الصحفيين البرازيليين -مثلما يحدث الآن- إخفاءه مستحيلاً.
تلا ذلك طرح الأطباء، مثلما يحدث الآن، وصفات طبية خطيرة وغير مجربة، مثلما روّج زعيم البرازيل الشعبوي لاستخدام عقار هيدروكسي كلوروكين رغم قلة الأدلة التي تدعم تأثيره. قال برتولي فيلهو إن أحد دجالي ساو باولو اشتهر بحقن مرضى الإنفلونزا الإسبانية بالزئبق. وأضاف: "قتل كثيراً من الناس، ومع ذلك صدقه كثيرون".
ولما كانت الإنفلونزا الإسبانية تمزق المدن، من ريسيفي إلى ريو دي جانيرو، وصف رجال الدين كذلك وصفات علاجية إعجازية، مثلما يطلق المبشرون الإنجيليون النافذون وعوداً لأتباعهم عبر التلفاز بتخليصهم من مرض كوفيد-19 عن طريق مياه مقدسة وبذور خارقة.
وفي عام 1918، مثلما يحدث الآن، أثار المرض الغامض أطناناً من الشائعات ونظريات المؤامرة، بما في ذلك مزاعم بأن الغواصات الألمانية نشرت سراً هذا المرض على امتداد الساحل البرازيلي. (وفي واقع الأمر، وصل المرض على ظهر سفينة إنجليزية تسمى ديميرارا).
الضحايا دائماً من الطبقات العاملة
ولكن ربما لا يكون هناك وجه تشابه أقسى من الطريقة التي أبطلت بها الكارثتان فكرة أن الجوائح تختار الضحايا دون تمييز. قال كلاوديو برتولي إن وفاة الرئيس البرازيلي المنتخب حديثاً آنذاك رودريغز ألفيز بسبب الإنفلونزا الإسبانية استُشهد به على نطاق واسع بأنه دليل على تكافؤ فرص الإصابة بالأوبئة.
وفي واقع الأمر، أظهرت سجلات المقابر أن أغلب وفيات ساو باولو البالغة 5000 حالة وفاة، كانت من الطبقة العاملة، ومن المناطق الصناعية مثل موكا وآيبرانجا وبراس، حيث شاهدت جدة فاريلا جامعي الجثث وهم يعملون. والآن، صارت المناطق التي تعاني أشد معاناة من مجتمعات ذوي الياقات الزرقاء، مثل برازيلانديا، وفريجيزيا دو أو، وكاباو ريدوندو، حيث لا يملك كثيرون رفاهية القدرة على الالتزام بالتباعد الاجتماعي أو العمل من المنزل.
قال فاريلا، الذي لا يزال يعيش في منزل جدته حتى اليوم، إنه كان من المبكر جداً معرفة الثمن الذي يدفعه الفقراء في بلد يسيطر فيه الأغنياء، الذين يمثلون 1% من الشعب، على 28% من الثروة.
وأوضح قائلاً: "موقف البرازيل مقلق للغاية وفريد للغاية؛ لأنك إذا نظرت إلى المسار الذي يتخذه الوباء -من الصين، ماراً بآسيا، ثم أوروبا، والولايات المتحدة- ستجد أن البرازيل كانت أول مواجهة له مع بلد يعاني من انعدام مساواة اجتماعية حاد".
وأضاف: "سيضرب بلاداً أخرى تعاني من انعدام مساواة، مثل الهند وباكستان، ولكن هنا كانت الحالة الأولى، وإننا نشهد اتضاح هذا في بلد يعيش فيه 13 مليوناً أو 14 مليون شخص في ظروف غير مستقرة وفقر مدقع".
لم تكن التنبؤات جيدة. قال فاريلا: "منذ بداية الوباء، أستيقظ كل يوم وأنا أشعر بالبؤس، وأفكر فيما سيحدث وكيف سيحدث". "المشكلة الأكبر التي نشهدها في أنحاء البرازيل الآن أن الوباء ينتشر عبر ضواحي المدن ومراكزها المتهدمة، حيث يعيش المستأجرون والمشردون".
وتابع حديثه قائلاً: "لا يوجد دليل حول المكان الذي سينتهي عنده هذا الأمر، لا يوجد دليل على الإطلاق؛ لأننا الآن في المنتصف تماماً من هذا التفشي".