انت إزاي كدا؟!

عدد القراءات
2,438
عربي بوست
تم النشر: 2020/06/14 الساعة 12:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/14 الساعة 12:34 بتوقيت غرينتش

تسأل المذيعة الرجل -مجازاً- عن آخر مرة تعصّب فيها على أحد، فيقول الرجل -مجازاً- إن آخر مرةٍ تعصب فيها كان على حماه، تسأله المذيعة: لمَ؟ فيجيب: "لأنه عيَّط مراتي". المشكلة لم تقف عند حد جواب الرجل -مجازاً- وإنما امتدت لتصل إلى ذروتها عند كثيرٍ من المراهقات، لم يكن تفاعلهن من باب تأديب الفتى، وإنما تخيل -يا سيدي- أنهن انبهرن به، وقلنَ له في نفَس واحد: "أنت إزاي كدا؟!".

ولا أريد أن أتخيل والد واحدةٍ من هؤلاء، وقد أنفق عمره لأجلها، يواصل الليل بالنهار ليوفر عيشاً كريماً لا تنظر بفضله إلى عيش الآخرين، ترتدي ما تريد، وتأكل ما تشتهي، وتصرف من بنك أبيها كما يحلو لها، ثم يرى الوالد الكريم ابنته تتمنى لو كان هذا الذكر زوجها، وما السبب يا عزيزي؟ ليس لأنه رجل شهم، ولا لأنه غني حتى، ولا لأنه طيب المعشر، ولا لأنه حسن الشكل، ولا لأنه حلو اللسان، إذَن ما السبب يا أساتذة؟ لأنه حين أبكاها أبوها، تعصّب عليه الزوج الشهم جداً.

شعرتُ بالقرف، لم أكن أحسبه جواباً حقيقياً، لكن مع مرور الوقت أدركتُ أنه قال ذلك بالفعل، وأن أولات الفتيات مبهورات به حقاً، وأنهن مستعدات للذوبان في دباديب كل شخص يتعصب على آبائهن، وكنتُ أشفق على الآباء حين تتزوج بناتهن، فيشعرون باليُتم من دونهن، رغم ود بناتهم لهم ورغم كرم أزواجهم، ورغم الجمال المتبادل بين الآباء وأزواج البنات، لكنني اليوم في إطار شفقة من نوعٍ آخر، إحساس مر جداً تجاه هؤلاء الآباء الذين ظنوا أنهم أحسنوا تربية بناتهم، وهم فعلوا بالتأكيد، أو على الأقل حاولوا، لكن ظهرت النتيجة فاضحة جداً، حين قالت البنت لـ"شِبه رجل" تعصّب على "أهم رجلٍ" في الدنيا: "أنت إزاي كدا؟"، "مفيش منك اتنين!"، "أنت جميل أوي بجد"، "يا ريتني مكان مراتك"، "أنا عايزة من النوع دا حالاً".

وأنا من جهتي، أردد العبارة نفسها لكن من زاوية أخرى، وأقول: "أنت إزاي كدا؟"، كيف تطيق نفسك؟ كيف تجرأت على أن تكون نطعاً إلى هذا الحد؟ إلى أي درجةٍ تعديت حدودك؟ مَن الشيطان الذي أقنعك بأن هذا من أبواب الشهامة؟ ومن الذي خيّل لك الغيرة أن تكون وغداً مع الرجل الأول والأهم والأفضل في حياة زوجتك؟ حتى الآباء الذين كانوا يقسون، حتى بعض الآباء الذين عاملوا بناتهم بطريقةٍ سيئة، كل هؤلاء يندمون يوماً ما، خصوصاً يوم زواج بناتهم، ويحاولون أن ينفقوا بقية أعمارهم لتعويضهن عن كل سوءٍ رأوه منهم، وهي حالات موجودة، لكن الأصل أن الأب أب، بلا شرح ولا تفسير.

وعلى الطرف الآخر، في مجتمع الهالات والفقاقيع، أرى فقاعةً، في هيئة ذكر له لحية وشعر طويل، وهذا مما يجذب الإناث للذكور، أرى ذلك الـ"…" -أتحفظ على الإفصاح بالكلمة التي مكان النقاط- يقول بكل انبساط: "أيوة دي مراتي.. ماترفعلي الشبشب عادي"، ولا أفهم، فأكرر الفيديو، باحثاً أين الحب في الموضوع، فأراه يكررها من تلقاء نفسه دون أن أكرر أنا الفيديو، وأذهب لأرى ردود الفعل، فأجد الكارثة، أجد أفراحاً منصوبة بطريقة "حبه" لزوجته، وأرى المآتم منصوبة أيضاً، لأن الله لم يرزقهن بـ"رجلٍ" مثل هذا، يريد لِزوجته أن ترفع عليه الشبشب -أعزكم الله- وليست لديّ مشكلة أبداً في أن يحب أي رجل أي فتاةٍ ويعبر لها عن حبه بطريقةٍ ما، وأن يلين لها، وأن تقف على ظهره لتشاهد رقص الأحباش، كان النبي يدعو عائشة لتشاهدهم، فينحني لها لتصعد على ظهره وتراهم، وذلك لينٌ كامل المعاني، بالقلب والجسد، انحناء رقيق بالقول والفعل، خضوع جميل ورفق كريم.

لكن مَن قال إن اللين والرفق يشملات ضرب المرأة لزوجها بالحذاء، أو ضرب الرجل لزوجته بالحذاء، من قال إن هذه الحماقة حب؟! دعك من كونه انعدام رجولة أو مروءة، تلك تفاصيل بعيدةٌ الآن، لكن مَن قال إن ذلك مودة ورحمة من التي تحدث عنها الله؟ مَن صوّر لنا العلاقات بهذه الفظاعة؟ بل نرى الآلاف مبهورين بها أصلاً؟ كرّمنا الله منذ أن خلقنا، لكن البعض يُصر على أن يحب بعضهم بعضاً على طريقة الصراصير، بالشباشب.

وهنا نجد المجتمع بأسوأ حالاته، لم يعد يرغب في الصور العادية من التعبير عن المشاعر، صار مرجعه أوغاد كلُّ أهميتهم أن لهم عدداً ما من المتابعين، فتريد الفتاة أن يكتب لها الرجل مثل نزار قباني، وإلا فإنه لا يحبها، وتريد أن ينحني لها على ركبته طالباً خطبتها في جمعٍ من الناس مثل الممثلين الأتراك، وإلا فإنه لا يحبها، وتريد أن يسافر بها إلى المالديف في شهر العسل، وإلا فإنه لا يحبها، وتريد أن يكتب فيها كتاباً على مرأى ومسمع الناس، وإلا فإنه لا يحبها، وتريد أن يكون مثل فلان بالضبط، وإلا فإنها لن تتزوجه، طيب -يا ستي- لمَ لا تذهبين فتتزوجي فلاناً نفسه؟

أشعر بالقرف جداً، لأننا صرنا في عصر أشباه رجالٍ يسبّلون أعينهم ويتمايعون ليعجبوا أطيافاً من الإناث الصغيرات، اللواتي نطلق عليهن في مصر "كلبوبات"، ودون أن نعرف سبباً للمسمى نشعر به يليق جداً بهنّ. متكالبات على كل قصعةٍ ظنّت نفسها رجلاً.

جعلتنا "السوشيال ميديا" عبيداً لما نراه، متجاهلين أننا نرى لقطةً واحدةً من حيوات هؤلاء المشاهير افتراضياً، وأن في التفاصيل كثيراً نجهله، ونزعت من قلوبنا الرضا والقناعة، فتحولنا إلى وحوش، إلى مصاصي دماء، نريد كل شيء، وبأي ثمَن، ونتخيل الأفعال المتطرفة مثل أن يتعصب أحدهم على آبائنا، أو أن نرفع الشباشب على أزواجنا، أفعالاً في غاية الرومانسية، "واو أنت إزاي كدا"!

ثم أريد أن أعوّض بصري عن التلوث الذي رأيناه معاً يا سيدي القارئ، فأنظر إلى آبائنا وأمهاتنا، إلى الأجداد والجدات، كيف تزوّج هؤلاء وأحبوا، كيف كانت بيوتهم غرفاً آمنة، كيف كانت المساكن ساكنة، كيف كانت المنازل مستورة، كيف كانت لكل شيء حرمته، وكيف تكون للحب قدسيته، وكيف تكون للعلاقات خصوصيتها، وكيف تُبنى البيوت على أساسٍ من الدفء، وكيف كانت السيدات يعبّرن عن حبهن بلُقمةٍ هنيّة في الصباح، وكيف كان الرجال يعبرون عن حبهم ببطيخةٍ يتأبطونها وهم عائدون من أشغالهم في آخر النهار، وكيف كانت أسرار البيوت واقفةً على أبوابها، مهما امتدت فإنها لا تخرج بعد الباب خطوةً واحدة، وكيف كانوا -كأهل الجنة- في الغرفات آمنون.

ثم أنظر إلى مَن يبنون اليوم بيوتهم من زجاجٍ شفاف، نرى من خلاله كل ما يدور عندهم على مدار الساعة، وأتذكر مَثلاً كانوا يقولونه قديماً: "اللي بيته من إزاز مايحدفش الناس بالطوب"، لكنني الآن أجد واجباً علينا تغيير المثل، فنجعله "اللي بيته من إزاز ميغيّرش في الصالة"، حفظاً لآخر قطرتين في ماء وجهه، لكنهم يتمادون، ويفتحون الحمام على الصالون على غرفة النوم، فأعود أفكر في فلسفة بناء البيوت في عصر ما قبل الإنترنت، وأتفكر في عمرانها، وأسأل سؤالاً جدّياً: "لماذا خلق الله الأبواب؟".

لا أفهم مَن أغرقنا في هذا الحب السائل، بحرٌ لزجٌ، سهلٌ أن تدخله، وسهلٌ أن تموت فيه غرقاً، مَن جعل كلمة "أحبك" رخيصةً إلى هذا الحد؟ أي دكانٍ ذلك الذي نادى "باتنين ونص" فتهافَت عليه الجميع؟ أي بياعٍ معدوم الضمير الذي صوّر القلوب بضاعةً تُباع وتُشترى في سوق التلات؟ أي إنسانٍ الذي جعل الناس حيواناتٍ تنظر إلى فرائسها وهي لم تشبع بعد من الذبيحة التي أمامها؟ واعتذاري للحيوانات صارت أكثر إنسانيةً منا.

فيا معشر الرجال، ربّوا فتياتكم على الكرم، املؤوا عيونهن بكم؛ حتى لا يخرجن غداً يصرخن انبهاراً بمن يريد أن يتعصب عليكم ويقفن يصفقن لنطعٍ لا يعرف عن الرجولة شيئاً، وعلِّموا أولادكم أن الحب كرامة، وأن اللين لا يعني أن يرفع الزوج حذاءً على زوجه، وإنما أن يحمل الزوج زوجه فوق رأسه، وأن يحني لها عنقه، وأن يريح لها ظهره، وأن يخفض لها جناحه، وأن يُخضع لها قوله.

وأعيدوا إلى الحب معناه وكرامته، وأغلِقوا أبوابكم عليكم، ولا تفتحوا للصوص مهما بدت وجوههم حلوةً وذقونهم طويلةً وشعورهم "ديل حصان"، وجرِّدوا المشاعر من المظاهر، وابنوا المنازل على قدر المنازل، واختاروا الأماكن على قدر المكانات، وأحبّوا كراماً كريمات، وعرّفوا فتياتكم الرجال مِن أشباه الرجال، وأخبروهن الفرق بين الرجالات والذكور، وفهِّموا أولادكم كيف يكنّ غزالاتٍ لا كلبوبات.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.