منذ ظهوره بجوار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قبل عدة أيام، وإعلانه قبول مبادرة القاهرة ووقف إطلاق النار اختفى زعيم الحرب المهزوم خليفة حفتر، وكثُرت التكهنات بشأن دوره في أي تسوية سياسية للصراع الليبي، والواضح أن هناك إجماعاً على إبعاد حفتر عن المشهد بصورة كلية، والفصل الأخير يتعلق فقط بالتوقيت والكيفية لأسباب عديدة.
نهاية أوهام "الحسم العسكري"
عندما شنَّ خليفة حفتر هجومه على العاصمة طرابلس، مطلع أبريل/نيسان الماضي، كان داعموه -الإمارات ومصر وفرنسا ولاحقاً انضمت لهم روسيا- واثقين تماماً من نجاحه في دخول العاصمة والإطاحة بحكومة الوفاق المعترف بها دولياً، ومن ثم إقامة نظام عسكري في ليبيا يتمحور حول الرجل الذي كانت وسائل الإعلام الغربية تشير إليه بأنه "رجل شرق ليبيا القوي".
ومن المهم هنا استدعاء الموقف السياسي وقتها، حيث كانت المفاوضات التي تقودها الأمم المتحدة قد توصلت بالفعل لاتفاق سياسي جامع وافق عليه الفرقاء جميعاً بمن فيهم حفتر، وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يضع اللمسات الأخيرة على المؤتمر الدولي، الذي سيشهد التوقيع في العاصمة، مقر الحكومة الشرعية، لكن حفتر تنصل من الاتفاق وأمر ميليشيات شرق ليبيا بالزحف نحو العاصمة، وفشل غوتيريش في إقناعه بالتراجع، ووصلت قوات حفتر بالفعل إلى ضواحي العاصمة.
وعلى مدى أكثر من 14 شهراً واصل حفتر محاولاته المتكررة "لحسم المعركة والدخول إلى قلب العاصمة" دون جدوى، ومع ازدياد الخسائر بين المدنيين وارتكاب ميليشياته لجرائم حرب متكررة رصدتها بعثة الأمم المتحدة، كان المجتمع الدولي يتدخل وتحدث مفاوضات وهدنة مؤقتة، ويتم التوصل لاتفاقات سرعان ما يضرب بها حفتر عُرض الحائط ويعاود الكرّة.
ومع الذكرى السنوية الأولى لبداية عدوان حفتر على العاصمة بدأ الموقف العسكري على الأرض في التحول بصورة واضحة، ومع نهاية مايو/أيار الماضي، والأيام الأولى من يونيو/حزيران الجاري، تم حسم معركة طرابلس واندحرت ميليشيات حفتر وتقهقرت باتجاه الشرق، تطاردها قوات الوفاق، وفي هذا السياق العسكري جاءت مبادرة القاهرة، السبت 6 يونيو/حزيران، والتي وافق فيها حفتر على وقف إطلاق النار، وجاء رفض حكومة الوفاق كما هو متوقع.
مؤشرات على نهاية "المهزوم"
الآن تدور معركة سرت، وتزداد المطالبات الدولية بوقف إطلاق النار والعودة إلى خارطة الطريق السياسية التي كان قد تم التوصل إليها بالفعل وانقلب عليها حفتر، وبالتالي فإن وجود حفتر على مائدة المفاوضات هذه المرة لن يكون مقبولاً بالمرة من جانب حكومة الوفاق وتركيا، بعد أن تكرر نكوصه عن الاتفاقات أكثر من مرة، لكن المؤشرات الصادرة عن المعسكر الداعم لحفتر تؤكد أيضاً أنه لم يعد مرغوباً في وجوده.
ولنبدأ من فرنسا، لنجد أن موقع إذاعة فرنسا الدولية (آر إف إي) قد نشر أمس الأربعاء، 10 يونيو/حزيران، مقالاً جاء فيه أنه أمام الفشل الواضح وضعف حفتر بعد هزائمه في المنطقة الغربية "لم يعد بمقدور العديد من العواصم الغربية أن تتحمل رفضه للاتفاقات، ونكوصه على ما سبق الاتفاق عليه في ليبيا"، كما نقلت الإذاعة الفرنسية الحكومية، عن مسؤول ليبي في الخارج لم تُسمّه، أن اللعب بورقة غير حفتر (بالنسبة لداعميه الدوليين) "أكثر من حاجة، بل ضرورة"، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
وفي السياق ذاته، نشرت صحيفة The Washington Post الأمريكية تقريراً، حذرت فيه من تعرض ليبيا للتقسيم، وعدَّدت المؤشرات على أن حفتر يوشك على السقوط خارج المشهد السياسي الليبي بشكل كامل، ومن المهم هنا التوقف عند موقف الولايات المتحدة، والتي أعلنت في بيان لسفارتها في طرابلس أنها تراقب "باهتمام ارتفاع أصوات سياسية في شرق ليبيا للتعبير عن نفسها، ونتطلع إلى رؤية هذه الأصوات تنخرط في حوار سياسي حقيقي على الصعيد الوطني".
الموقف المصري من حفتر
لكن ربما يكون المؤشر الأبرز على انتهاء دور حفتر تماماً هو التحول المصري الواضح تجاه زعيم الحرب الذي استقبله الرئيس المصري مرات كثيرة، وكان الرهان المصري على حفتر واضحاً ومفهوماً حتى في دوافعه، فالنظام المصري يتعامل مع الملف الليبي من منظور عدائه لتيار الإسلام السياسي أولاً وأخيراً، لكن الفشل الذريع لحفتر في عدوانه على طرابلس، إضافة لوقوف طموحات الرجل ذي الشخصية المثيرة للجدل حجر عثرة أمام الجهود المصرية لتوحيد قبائل شرق ليبيا، حسمت الأمور لصالح البحث عن بديل لحفتر.
"المبعوث الأمريكي السابق إلى ليبيا جوناثان وينر، نشر تغريدة أثارت جدلاً كبيراً على منصات التواصل، جاء فيها أن "حفتر لن يُطرد بالكامل من الصورة على الفور، لكنه سيبقى في القاهرة إلى أجل غير مسمى تحت مراقبة دقيقة… لبضعة أسابيع على الأقل، قبل أن يحتاج إلى إيجاد مكان للتقاعد"، نقلاً عن كبار المسؤولين المصريين.
كما كتب المحلل السياسي الليبي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية محمد بويصير، تغريدةً أخرى توقع خلالها أن تتخلص القاهرة من حفتر بأسلوب "ناعم ومتحضر"، وتزامن ذلك كله مع تصريح للرئيس التركي رجب طيب أردوغان قال فيه إن "حفتر سيكون خارج المعادلة بليبيا في أي لحظة، وفقاً للتطورات الحالية".
ومنذ ظهوره بجوار السيسي وعقيله صالح أثناء الإعلان عن مبادرة القاهرة، أصبح حفتر مادة خصبة للتكهنات الإعلامية، حيث تحدثت تقارير عن أن السلطات المصرية قد وضعته رهن "الإقامة شبه الجبرية" لفترة محدودة، ثم نسبت وسائل إعلام، لسفارة فنزويلا في واشنطن أن "حفتر متواجد حالياً في فنزويلا"، واتضح أن ذلك غير صحيح، ثم زعم بعض الناشطين الليبيين أن حفتر عاد إلى مقره في منطقة الرجمة بمدينة بنغازي (شرق)، بعد توسط أطراف ليبية لإخراجه من الإقامة الجبرية بالقاهرة.
وبثت قناة "ليبيا الحدث"، التي يملكها أحد أبناء حفتر، الأربعاء، لقطات لاستقبال الجنرال الانقلابي بمكتبه في الرجمة، لسفير ألمانيا لدى ليبيا أوليفر أوفتشا، وبالاطلاع على حساب السفير الألماني الذي يحمل العلامة الزرقاء تم التأكد من أن اللقاء جرى فعلاً الأربعاء، لكن السفير الألماني لم يذكر مكان اللقاء، إلا أن الصورة كانت مشابهة للمشاهد التي بثتها القنوات التابعة لحفتر، وفي تغريدته قال أوتشا "من خلال اجتماع اليوم (الأربعاء) مع الجنرال حفتر، أعربتُ عن قلقي حيال المواجهات العسكرية المستمرة وتأثيرها المقلق على السكان المدنيين".
هل يكون البديل "سياسياً"؟
للوهلة الأولى يبدو عقيلة صالح البديل الجاهز للجلوس إلى مائدة المفاوضات، ممثِّلاً لشرق ليبيا، بديلاً لحفتر، وعلى الأرجح سيكون بديلاً مقبولاً لحكومة الوفاق والمجتمع الدولي، وعسكرياً يُعد رئيس أركان ميليشيا حفتر عبدالرزاق الناظوري، المقرب من عقيلة صالح، المرشح الأول لخلافة المهزوم على رأس ميليشياته، لكن هناك أسماء أخرى مطروحة على غرار فرج بوغالية، المقرب من حفتر، والمحسوب أيضاً على مصر، ومفتاح شقلوف الدرسي، قائد عمليات سرت، الذي رُقي من لواء إلى فريق، وقد يكون ذلك لتقديمه كخيار ثالث.
المؤشرات كلها تُرجح أن حفتر انتهى دوره في الملف الليبي إذن، وتظل مسألة التوقيت وكيفية الإعلان عن ذلك رهن عدة عوامل، أبرزها الاتفاق على بديل له يقبل به داعموه، إضافة إلى ضمان ألا يتسبب الجنرال المهزوم في إثارة مزيدٍ من الانقسامات في صفوف ميليشيات وقبائل شرق ليبيا.