في الوقت الذي تفجرت فيه قضية العنصرية وعنف الشرطة بعد مقتل جورج فلويد واندلاع احتجاجات هائلة تمددت خارج الولايات المتحدة، كيف يمكن أن يكون تأثير وباء كورونا على قضية العنصرية، وماذا يخبرنا التاريخ عن تأثيرات الأوبئة اجتماعياً؟
مجلة The National Interest الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "كيف يمكن أن يؤدي فيروس كورونا إلى مزيد من العنصرية؟"، ألقى الضوء على تأثير الأوبئة في النسيج الاجتماعي والعلاقات بين طبقات المجتمع.
الجائحة ظاهرة اجتماعية أيضاً
ليست الجوائح ظواهر بيولوجية فحسب، بل إنها كذلك ظواهر اجتماعية. وعلى مر التاريخ، كانت الجوائح محركات قوية للتغيير الاجتماعي، وفضح انعدام المساواة في توزيعات الثروة والصحة، وإثارة المطالب من أجل إصلاح المؤسسات الاجتماعية.
وفي هذا الصدد، يمكن للاحتجاجات الحاشدة التي تجتاح الولايات المتحدة، في أعقاب مقتل جورج فلويد، أن تُرى بوصفها أحد أعراض مرض اجتماعي أعمق، برز في واجهة الأحداث عن طريق جائحة فيروس كورونا والاستجابة المتخبطة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه مرض كوفيد-19.
عندما التُقط مقطع الفيديو للضابط الأمريكي ديريك شوفين وهو يضغط على رقبة جورج فلويد بركبته، بينما كان الأخير مستلقياً على الأرض ويتوسل إليه قائلاً: "لا أستطيع التنفس"، لم يسَع هذه اللقطات إلا أن يترافق صداها مع الطريقة التي يخنق بها فيروس كورونا حياة الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية وبأعداد غير متناسبة. وبحسب ما قاله الروائي والشاعر النيجيري بن أوكري في حديثه مع هيئة الإذاعة البريطانية BBC: "ترتبط الجائحة نفسها ارتباطاً مباشراً بالتنفس. وأعتقد أن ذلك ساعد في الضرب على وتر حساس لدى الناس".
ربما يُعزى التفاوت في نسب وفيات الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية إلى عوامل عديدة، بما فيها انخفاض مستويات فيتامين د لدى أبناء مجتمعات السود والآسيويين والأقليات العرقية. لكن هناك بعض الشكوك تشير إلى أن الفقر وانعدام الأمن الوظيفي، إلى جانب الظروف المعيشية الطاحنة التي تواجه السود، الذين يتركزون تركزاً كثيفاً في المناطق الداخلية المتداعية بالمدن، أسهمت بدور هي الأخرى في ارتفاع نسب الوفيات. (في واشنطن العاصمة على سبيل المثال، بلغت نسب الوفيات بين السود ستة أضعاف النسب بين البيض).
ليست المرة الأولى
حدث شيء مشابه في عام 1849، عندما اجتاح مرض الكوليرا أمريكا. ومثلما يحدث اليوم، كان التأثير الأكبر للمرض آنذاك على سكان المناطق الداخلية المعدمة، ويذكر المؤرخ الأمريكي تشارلز روزنبرغ في كتابه The Cholera Years، أنه في وسط مدينة فيلادلفيا، عُثر على "زوجين حُرّين من غير البيض" متوفيين داخل غرفة طولها 2.13 متر وعرضها 1.37 متر.
كان الأمر مماثلاً في الحي الذي يُعرف بـ "حي النقاط الخمس" (Five Points) الكائن في نيويورك، حيث كُدِّس المهاجرون الآيرلنديون داخل مساكن بدائية مصنوعة من الخشب وتفتقر إلى المياه الجارية والصرف الصحي. بلغ نصيب الآيرلنديين من نسب الوفيات 40%. وعلى النقيض من هذا، استطاع الأثرياء من سكان نيويورك ذوي الخلفيات البروتستانتية الفرار في العموم من ويلات الكوليرا عن طريق الهروب من البلاد.
وفي عام 1832، عندما وصلت "الكوليرا الآسيوية" لأول مرة إلى الولايات المتحدة، افترض الأمريكيون أن الفضيلة الدينية والبساطة الريفية للحياة الأمريكية يمكن أن تحميهم من الوباء القادم من الشرق، ولكن بعد عام 1849، لم يعد أبناء نيويورك قادرين على تجاهل العلاقة بين الكوليرا والفقر.
وعندما أوضح الطبيب الإنجليزي جون سنو أن الكوليرا كانت تنتقل عبر المياه، صارت قضية إصلاح الصرف الصحي مُلحّة، ومع إدراك أن الكوليرا كانت مرتبطة بالازدحام، والمنازل غير الصحية، والصرف الصحي الرديء، ضغط المختصون في الصحة على مجالس الصحة لإمداد المدن بأنظمة المياه الآمنة، ولاحقاً، صارت هذه المجالس نماذج للمؤسسات الصحية العامة المحلية وعلى مستوى الولاية.
غير أن الأوبئة تكون في الغالب أحداثاً شاهدة على التمييز ضد المجموعات العرقية والاجتماعية، فعندما ضرب التيفوس نيويورك في عام 1892، ألقت السلطات الصحية في المدينة اللائمة في التسبب في تفشي المرض على مهاجرين يهود قدموا في وقت قريب آنذاك من روسيا وسافروا على الدرجة الثالثة، ففرضوا عليهم حجراً صحياً في جزر نورث برازر آيلاند في إيست ريفر. وعلى النقيض من ذلك، لم يُفرض الحجر الصحي على المسافرين الذين سافروا على الدرجة الأولى من السفن.
نظريات مؤامرة
في أغلب الأوقات، وافقت الأقليات على القيود المفروضة على حرياتها حرصاً على صحة الجميع، ولكن عندما تتعرض حرية الأغلبية للتهديد، تستتبع الاحتجاجات والعنف. على سبيل المثال، خلال وباء الكوليرا الروسية عام 1832، تجمع سكان سانت بطرسبرغ في ميدان سينايا احتجاجاً على الحجر الصحي والكردونات، التي ظنوا أنها مؤامرة من الطبقات المتعلمة لقمع الفقراء.
وبعد أن وجهوا اتهامات إلى مفتشي الصحة بنشر المرض، نهبوا المستشفى الأساسي المختص بحالات الكوليرا في المدينة ونادوا بقتل الأطباء، الذين اشتبهوا في أنهم سمموا الآبار، ولم تتوقف الاضطرابات إلا عندما ظهر القيصر نيكولاي الأول، إمبراطور روسيا، في الميدان وأمر الحشود بالركوع على رُكبهم.
أثارت نظريات المؤامرة المتعلقة بدور مهنة الطب في نشر الكوليرا الاضطرابات في بريطانيا هي الأخرى، وبحسب ما قاله المؤرخ الطبي صموئيل كوهين، شهدت بريطانيا 72 اضطراباً بين عامي 1931 و 1832 مع حشود بلغت أعدادها "آلافاً وهددت حياة الأطباء".
وكان الاختلاف أن أطباء بريطانيا اتُّهموا باستخدام الكوليرا لتكون حيلة من أجل إجراء عمليات التشريح. عُرفت هذه الممارسة في بريطانيا باسم "Burking"، بعد فضيحة عام 1828 في إدنبرة، عندما اغتال ويليام بورك ووليام هير 16 شخصاً وقدما جثثهم إلى محاضر في قسم التشريح بكلية الجراحين الملكية بإنجلترا.
وفي حالة مرض كوفيد-19، تسببت نظريات مؤامرة في إثارة احتجاجات من جماعات اليمين المتطرف المسلحة ورافضي التطعيمات المقتنعين بأن فيروس كورونا حيلة لحرمان الأمريكيين من حرياتهم عبر فرض تدابير التباعد الاجتماعي. ولعل السمة الأبرز في هذه الاحتجاجات أن المتظاهرين كان السواد الأعظم منهم من البيض ولا يرتدون أقنعة. وعندما اجتاحت الحشود مبنى مجلس النواب التشريعي لولاية ميشيغان في أبريل/نيسان، كانت هذه الجماعات تحمل أسلحة.
وأظهرت الاحتجاجات المنتشرة حول الولايات المتحدة الآن وفي بلاد أخرى تجاهلاً مماثلاً لتدابير التباعد الاجتماعي. ولكن على النقيض، ارتدى كثير من هؤلاء المحتجين أقنعة كُتب عليها "لا أستطيع التنفس" احتراماً للتهديد الذي يشكله فيروس كورونا على صحتهم وصحة الأشخاص الآخرين.
لم يلوح أي منهم باستخدام الأسلحة. وبرغم هذا، قوبلوا برجال الحرس الوطني المدججين بالسلاح والرصاص المطاطي، الذين يحرضهم رئيس يبدو عازماً على إشعال الموقف.
ليس من المستغرب أنه في ولاية مينيسوتا -حيث كان ثلث حالات الإصابة بمرض كوفيد-19 من نصيب السود، مع أنهم يمثلون 6% فقط من سكان الولاية- صاغت أندريا جينكين، نائبة رئيس مجلس مدينة مينيابوليس، مقارنة بين العنف الذي تُعاقَب به مجتمعات السود وبين وفاة جورج فلويد، إذ قالت: "لن نحل هذه القضية أبداً، إلى أن نُعرّف فيروس [العنصرية] هذا".
ولسوء الحظ، تكمن المأساة في أن الغضب الموجّه إلى قوات الشرطة حول الولايات المتحدة يحمل خطر إطلاق موجة ثانية من عدوى كوفيد-19، وقد تكون مدمرة مثل الموجة الأولى.