في خضم جائحة عالمية لا أحد يعلم مداها ولا كيف يمكن أن تنتهي، تطفو على السطح مخاطر عودة الحرب الباردة بكل تفاصيلها وأخطرها سباق التسلح النووي، لكن هذه المرة الخصم الآخر في مواجهة أمريكا هو الصين، فلماذا حسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين موقفه وقرر الانضمام لطرف قد لا يكون الأقوى حالياً؟
مجلة The National Interest الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "هل يخطط بوتين للدخول في مواجهة حول مراقبة الأسلحة؟"، ألقى الضوء على مخاطر عودة سباق التسلح بين روسيا والولايات المتحدة، ودخول الصين على الخط.
ماذا حدث في مجال التسلح؟
أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية الأسبوع الماضي أن الولايات المتحدة تعتزم الانسحاب من اتفاقية السماوات المفتوحة خلال 6 أشهر، متهمةً روسيا بخرق الاتفاقية "بشكل صارخ ومستمر"، وأوضحت الوزارة أن الولايات المتحدة قد تعيد النظر في قراراتها "إذا عادت روسيا إلى الالتزام الكلي بالاتفاقية".
تمنح اتفاقية السماوات المفتوحة، التي أُبرمت عام 1992، كل بلد من البلاد الـ 35 الموقعة عليها، من بينهم الولايات المتحدة وروسيا، حق إجراء مراقبة جوية بطائرات غير مسلحة فوق أراضي البلاد الأخرى في هذه الاتفاقية.
نفت روسيا مزاعم خرقها المعاهدة واتهمت الولايات المتحدة بالتصرف بطريقة "خطيرة ولا يمكن التنبؤ بها". ومع ذلك، أشارت موسكو إلى أنها سوف تواصل مراعاة الاتفاقية، ولا يمثل قرار إدارة ترامب الانسحاب من اتفاقية السماوات المفتوحة خسارةً كبيرةً لموسكو، وذلك حسبما قال فيكتور موراكوفسكي، رئيس تحرير مجلة الدفاع الروسية النافذة Arsenal of the Fatherland.
وأوضح أنه نظراً إلى أن كلاً من روسيا والولايات المتحدة تجمع معلوماتها الاستخباراتية العسكرية من أقمار الاستطلاع الصناعية، فلن تكون خسارة القدرات الاستخباراتية لموسكو كبيرة بانسحاب واشنطن من اتفاقية السماوات المفتوحة، وقال موراكوفسكي: "لا أعتقد أن هذا القرار سوف يحمل أي تأثير عسكري خطير، ولكن ثمة عواقب سياسية لهذا القرار بكل تأكيد، نظراً إلى أنه بحدوث ذلك ستفشل اتفاقية أخرى، تستهدف تقليل التهديدات العسكرية وبناء الثقة بين روسيا والولايات المتحدة".
لماذا يصر ترامب على إشراك بكين؟
غير أن ثمة مسألة أكثر إلحاحاً أمام موسكو، وتتعلق بمعاهدة ستارت الجديدة، وهي اتفاقية مراقبة أسلحة بين روسيا والولايات المتحدة أُبرمت في 2010 وفرضت حدوداً على عدد الأسلحة النووية الاستراتيجية التي يُسمح للبلدين امتلاكها ونشرها، وأصرت إدارة ترامب على إعادة صياغة الاتفاقية كي تدمج فيها الصين، التي يُتوقع أن تضاعف حجم ترسانتها النووية خلال العقد القادم، وذلك بحسب ما تقوله الاستخبارات الأمريكية.
ومع ذلك، رفضت بكين مراراً وتكراراً دعوة إدارة ترامب إلى الاتفاق على معاهدة سلاح ثلاثية جديدة، وجادلت بأن ترسانتها النووية، التي تضم أقل من 300 رأس حربي نووي، تتخلف بالفعل عن مواكبة نظيرتها الأمريكية والروسية، التي تمتلك كل ترسانة منهما حوالي 6 آلاف رأس حربي.
وفي ظل الريبة التي تحيط معاهدة ستارت الجديدة، فإن التوترات النووية بين الولايات المتحدة وروسيا تبدأ في الصعود، ففي مطلع فبراير/شباط، أعلنت وزارة الدفاع (البنتاغون) أنها بدأت نشر صواريخ نووية منخفضة القوة على الغواصات، وردت وزارة الخارجية الروسية بتحذير بأن أي هجوم ضد روسيا يتضمن هذه الصواريخ سيقابل بضربة نووية انتقامية.
وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، كشف البنتاغون عن تنفيذ محاكاة لضربة نووية محدودة ضد روسيا في إطار تدريب عسكري، وأغضب الإعلان روسيا، ودفع وزارة الخارجية لروسيا بتوجيه اتهام لواشنطن بـ"الشروع في لعبة شديدة الخطورة".
وفي أبريل/نيسان، عين ترامب مارشال بيلينغسلي، الذي شغل قبل ذلك منصب مساعد وزير الخزانة الأمريكي لشؤون مكافحة تمويل الإرهاب، في منصب مبعوثه الخاص لمراقبة التسلح، وتبنى بيلينغسلي نبرة حازمة خلال أول شهر له في المنصب، وحذر من أن الولايات المتحدة كانت مستعدة لأن تنفق على السلاح ما يجعل روسيا والصين "في طيّ النسيان" في حال الدخول في سباق أسلحة جديد.
بالرغم من أن الكرملين نفسه اعترف بأن روسيا لا تستطيع الإنفاق أكثر من الولايات المتحدة، تعهد بالرد على تعزيز السلاح من جانب الولايات المتحدة، ورغم ذلك، لجأت القيادة الروسية إلى التركيز على تطوير أسلحتها المتقدمة الجديدة، بدلاً من خوض السباق لتوسيع ترسانتها الصاروخية.
روسيا تواجه أمريكا بخطة جديدة
قال أستاذ العلوم السياسية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية أندرانيك ميغرانيان والمستشار غير الرسمي للرئاسة الروسية: "قال بوتين في مرات عديدة إننا لن ننجر إلى سباق تسلح مثل سباق التسلح الذي أفلس بسببه الاتحاد السوفييتي، وبدلاً من ذلك سوف يكون ردنا غير متناظر وموجهاً".
وأوضح: "الولايات المتحدة لديها ميزانية دفاع تتجاوز 700 مليار دولار، ولا تستطيع روسيا تخصيص مثل هذا الكمّ من المال على الإنفاق العسكري، لذا سوف تركز روسيا على تطوير الصواريخ التي تفوق سرعة الصوت وأشكال الردع الأخرى القادرة على تقديم استجابة كافية للتحديات الأمريكية بتكلفة أقل".
أضاف ميغرانيان أن الولايات المتحدة 2020 تعد خصماً أقل شراسة بالنسبة لموسكو مما كانت عليه في 1980، وتابع: "عندما تفتعل إدارة ترامب معركة مع جميع خصومها المحتملين وفي الوقت ذاته تخبر جميع حلفائها المحتملين بأن يذهبوا إلى الجحيم، فإن الولايات المتحدة تحتل حينئذ موقفاً أسوأ من أجل خوض مواجهة شاملة".
رغم ذلك، حتى في ظل تكثيف إدارة ترامب الضغط على روسيا، فإنها تعتمد كذلك على الكرملين لدعم حملتها من أجل إبرام معاهدة مراقبة أسلحة جديدة يمكن أن تضم الصين، لكن سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، استبعد هذا المقترح في مقابلة خلال الأسبوع الماضي، وذكر بعبارات مؤكدة عدم وجود نية لدى موسكو للوقوف بجانب واشنطن ضد بكين.
وأخبر الصحيفة الروسية Kommersant قائلاً: "لدينا شراكة استراتيجية مع الصين، ونقدرها تقديراً هائلاً. وفي موقف تبدو فيه الولايات المتحدة شريكاً لا يمكن التفاوض، ومقوّضاً لهيكل نظام مراقبة أسلحة بأكمله، فكيف يمكننا المشاركة في أي مؤامرات في هذه المنطقة من أجل مكاسب ومزايا سريعة الزوال؟".
روسيا والصين معاً في مواجهة واشنطن
وحتى قبل أن تكشف إدارة ترامب عن أنها تفكر في الخروج من معاهدة ستارت الجديدة، بدأت روسيا والصين في التعاون على صعيد الدفاع الصاروخي. منذ عام 2016، أجرى البلدان تدريبات محاكاة حاسوبية للدفاع المضاد للصواريخ. وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن روسيا كانت تساعد الصين في تطوير نظام الإنذار المبكر للهجمات الصاروخية الخاص بها، وهو شيء تمتلكه الآن الولايات المتحدة وروسيا فقط.
تنبأ موراكوفسكي بأنه في حالة استمرار تصاعد وتيرة التوترات بين الولايات المتحدة وموسكو فيما يتعلق بمراقبة الأسلحة، فإن مثل هذا النوع من التعاون بين موسكو وبيكين سوف يتسع فحسب، لكن ميغرانيان أكد على أن العواقب الجيوسياسية لانهيار معاهدة ستارت الجديدة يمكن أن تكون ذات أصداء بعيدة المدى. وذكر أنه بينما لم يكن من الممكن تصور أي تحالف عسكري صيني روسي، بدأ كلا الطرفين في إعادة النظر إلى تحفظاته الممتدة منذ عهد طويل حول هذه المسألة.
قال ميغرانيان: "نتيجة لهذا الزخم [من جانب الولايات المتحدة] لإجبار الصين على الاستسلام، أعتقد أن الصين لأول مرة تبدو متأهبة لتعميق العلاقات العسكرية مع روسيا، بل وربما تكون متأهبة [للدخول في] تحالف. واختتم بقوله إنه "لا الصين ولا روسيا كانت لديها نية سلك هذا المسلك، لكن سياسات واشنطن لم تترك لهما خياراً آخر".