إعلان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي للمبادرة المصرية لحلّ القضية الليبية يستحق التوقف أمامه من خلال نقطتين أساسيتين؛ التوقيت ووجود خليفة حفتر في الصورة مع عقيلة صالح، فكلتا النقطتين كاشفة للكثير في إدارة الحكومة المصرية لملف أساسي ومهم للأمن القومي المصري، بحكم عوامل الجغرافيا والتاريخ.
ماذا عن التوقيت؟
تقوم المبادرة التي أعلنتها القاهرة على لسان السيسي على مبادئ عامة، تُعيد ملف الصراع في ليبيا إلى مائدة التفاوض، وتفرض هدنة للقتال على الأرض، يُفترض أن تبدأ من الإثنين 8 يونيو/حزيران، أي باختصار وبعيداً عن الدبلوماسية اعتراف بأنه لا يوجد حل عسكري للصراع، ولا بد من العودة لصناديق الانتخاب في نهاية المطاف كي يقرر الشعب الليبي مصيره.
وحتى تتضح الصورة الكاملة "للتوقيت السيئ" لهذه المبادرة، لا بد من العودة إلى الوراء حين شن خليفة حفتر -المدعوم من الإمارات ومصر وفرنسا وروسيا بهذا الترتيب- هجومه على العاصمة طرابلس، مقر حكومة الوفاق المعترف بها دولياً -والتي توجد سفارتها في مصر حتى اليوم وتعترف بها القاهرة- تحت دعاوى "محاربة الإرهاب"، وكان ذلك في بداية أبريل/نيسان 2019، ولا بد هنا من التذكير بالموقف في تلك اللحظة.
في ذلك الوقت كانت المساعي الدبلوماسية للتوصل إلى اتفاق يجمع أطياف المشهد الليبي قد وصلت إلى محطتها النهائية، وتوصَّل الفرقاء السياسيون في ليبيا بالفعل، برعاية الأمم المتحدة، لاتفاق بإدخال تعديلات على اتفاق الصخيرات، تمهيداً لعقد مؤتمر وطني يشارك فيه الجميع، بمن فيهم الأطراف التي لم تشارك في الحوارات السابقة، وكان الهدف هو إجراء استفتاء على دستور جديد للبلاد، ومن ثم إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية يشارك فيها الشعب الليبي بأكمله.
وتم بالفعل التوصل للاتفاق بموافقة جميع الفرقاء، بمن فيهم حفتر، وبينما ينتظر الليبيون التوقيع على خارطة الطريق وبدء مرحلة جديدة من البناء والعيش في سلام، شنَّ حفتر هجوماً مفاجئاً دون سابق إنذار باتجاه العاصمة، معلناً أن هدفه هو السيطرة على كامل التراب الليبي بهدف "محاربة الإرهاب"، وكان ذلك مطلع أبريل/نيسان 2019، وتزامن ذلك مع وجود الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريتش في العاصمة طرابلس -استعداداً لعقد المؤتمر الدولي للتوقيع على خارطة الطريق المتفق عليها- وتوجه غوتيريتش بالفعل إلى بنغازي وعقد اجتماعاً مع حفتر، بهدف إثنائه عن هجومه على العاصمة والعودة لطاولة المفاوضات، لكن ذلك الاجتماع لم يؤدِ لأي نتيجة، وغادر غوتيريتش ليبيا "مفطور القلب" بنص تغريدته.
المبادرة المصرية إذن هي دعوة للعودة إلى نفس النقطة التي كانت القضية الليبية قد توقفت عندها قبل أكثر من 14 شهراً، فمن الطبيعي ألا تجد تلك المبادرة ترحيباً من حكومة الوفاق وداعمتها الرئيسية تركيا، حيث إن المبادرة تأتي في توقيت اندحر فيه حفتر وميليشياته بشكل كامل، وانتهت معركة طرابلس وبدأت الحكومة الشرعية في استعادة السيطرة على باقي مدن الشرق الليبي انطلاقاً من سرت، وقياساً على ما حدث في أكثر من مناسبة طوال الأشهر الماضية ليس من الصعب قراءة أن الهدف الرئيسي من المبادرة وفرض هدنة هو إعطاء الفرصة لحفتر كي يحاول تضميد جراحه والاستعداد لجولة أخرى من القتال.
فتِّش عن دور الإمارات
على الرغم من بيانات التأييد التي صدرت من غالبية داعمي معسكر حفتر للمبادرة المصرية، وحتى من جانب الإدارة الأمريكية، فإن موقف الإمارات تحديداً -رغم إعلان تأييد المبادرة- هو ما يجب التوقف عنده، والسؤال هنا متى تتخذ القاهرة مواقفها بناء على مصلحتها الوطنية وأمنها القومي، وليس بناء على طموحات الإمارات الإقليمية ممثلة في ولي عهد أبوظبي ورغبته المحمومة في محاربة الإسلام السياسي من وجهة نظره، وهذه حقيقة لا ينكرها بن زايد ولا منظروه.
وفي تقرير لرويترز حول المبادرة المصرية، قال دبلوماسيون إن الجهود التي تقودها مصر لتوحيد ما يُعرف باسم "الجيش الوطني الليبي" -التسمية التي أطلقها حفتر والإمارات على ميليشيات شرق ليبيا التي تضم مرتزقة من الجنجاويد وفاغنر الروسية وغيرها من الجنسيات الأخرى- قد توقفت في وقت سابق بسبب مطالبة حفتر بأن يكون القائد الأعلى.
وقال طارق مجريسي، محلل الشؤون الليبية في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية لرويترز "إن أصوات العسكريين هي الأعلى في الوقت الحالي، تدعمها مخاوف من أن حفتر والإمارات سيستغلان أي هدنة لتعزيز موقفه وشنّ هجمات مضادة".
والحديث عن الطموحات الإماراتية لم يعُد من قبيل التحليل أو التخمين، وفيما يخص القضية الليبية نفسها، في الوقت الذي وقف فيه السيسي متوسطاً عقيلة صالح وحفتر، ليعلن عن مبادرة القاهرة، كان مستشار ولي عهد أبوظبي عبدالله عبدالخالق يقول في مقال رأي منشور في جريدة الشروق المصرية إن "قيادة العرب الآن بيد الخليج"، وردّ عليه الكاتب الصحفي المصري من خلال مقال له في نفس الصحيفة بعنوان "قيادة الأمة.. لمن؟ في الرد على عبدالخالق عبدالله".
إقحام حفتر في الصورة يُفسدها
ما تريدة الإمارات من دعم حفتر إذن لا يصبُّ في مصلحة الأمن القومي المصري، فلماذا يُصر السيسي على إقحام حفتر -رجل بن زايد- في الصورة، رغم أن دور زعيم الحرب الليبي قد انتهى عملياً، ولم يتبقّ سوى إعلان مراسم جنازته سياسياً.
مجلة National Interest الأمريكية نشرت أمس السبت، 6 يونيو/حزيران، تقريراً بعنوان: "الحرب الأهلية الليبية: هل انتهى أمر حفتر؟"، ختمته بالقول إن "ما يبدو مؤكداً هو أن اتفاقاً سياسياً لن يُبرَم وحفتر في القيادة، فقد عارض ذلك من قبل، وعلى الأرجح لن يغير رأيه الآن، وإن تمكن حفتر من الاستمرار في الحصول على بعض الدعم العسكري الدولي على الأقل فهو لن يستسلم كما أظهر عزمه من قبل على عدم الاستسلام، أما إن خسر كل الدعم العسكري الدولي الذي يتمتع به فيُمكن أن نقول بثقة إن أيامه معدودة".
حفتر يحرّض القاهرة
بينما كان يقف إلى جانب السيسي في المؤتمر الصحفي أمس السبت، أعلن حفتر موافقته على المبادرة المصرية الجديدة، التي يرى المحللون أنها -حال دخولها حيز التنفيذ وهو أمر غير مستبعد، فرفض حكومة الوفاق لها سببه وجود حفتر نفسه- ستقوّض نفوذه في شرقي البلاد، بعد أن نفد صبر مؤيديه في الخارج، باستثناء أبوظبي على ما يبدو.
ومن المهم هنا التوقف عند تصريحات حفتر: "نأمل من فخامتكم (السيسي) العمل على بذل جهود أكثر فاعلية وعاجلة، لإلزام تركيا بالتوقف التام عن نقل الأسلحة والمرتزقة إلى ليبيا، وإعادة من تم نقلهم إلى أوطانهم التي جاؤوا منها".
لا تحتاج كلمات حفتر للتفسير، فهو يحرّض القاهرة على الدخول في مواجهة مفتوحة ومباشرة مع تركيا التي تدعم حكومة الوفاق، وهذا تذكير صارخ بالموقف في اليمن أيضاً، فحينما شنَّ ولي العهد السعودي -بتحريض من ولي عهد أبوظبي أيضاً- حرب اليمن قبل أكثر من 6 سنوات، بهدف إعادة الشرعية بعد انقلاب الحوثي، كانت هناك ضغوط أيضاً على مصر للمشاركة بفاعلية في تلك الحرب، التي كشفت عن أمر رئيسي، وهو أن الإمارات لا يمكن الوثوق بها ولا بنواياها، والسعودية نفسها قد ذاقت الأمرّين ولا تزال في اليمن.
والسؤال هنا من وجهة نظر المصلحة القومية المصرية: هل يخدم تلك المصلحة الإصرار على وجود حفتر على طاولة المفاوضات؟ بعد أن أثبت عشرات المرات أنه لا يمكن الوثوق به، وبعد أن انكشف -تماماً مثل الإمارات- أمام الليبيين أنفسهم وأمام داعميه الخارجيين. الإجابة واضحة بالطبع، لكن ذلك لا يعني أن السيسي سوف يلتزم بالمصلحة القومية المصرية، خشية إغضاب ولي عهد أبوظبي الذي أصبح واضحاً للقاصي والداني أنه المحرك الرئيسي للصراع، ليس في ليبيا واليمن وحسب، وإنما في أغلب الدول العربية التي تسعى شعوبها لتقرير مصيرها بعد عقود من الفساد والديكتاتوريات العسكرية.