ما أشبه اليوم بالبارحة! إليك خلفيات الشغب في لوس أنجلوس عام 1992

عام 1992، اندلعت أعمال الشغب في لوس أنجلوس عقب تبرئة أربعة ضباط شرطة، كانوا قد صُوروا وهم يضربون بشدةٍ سائق تاكسي أسود يُدعى رودني كينغ، من تهمة استخدام العنف المفرط

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2020/06/03 الساعة 22:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/04 الساعة 05:36 بتوقيت غرينتش
ظهرت "أدلة" مماثلة لممارسة الشرطة سلوكيات عنيفة تحمل كراهية صريحة، في جثامين أشخاص آخرين في الفترة ذاتها/ LA Times

عام 1992، اندلعت أعمال الشغب في لوس أنجلوس عقب تبرئة أربعة ضباط شرطة، كانوا قد صُوروا وهم يضربون بشدةٍ سائق تاكسي أسود يُدعى رودني كينغ، من تهمة استخدام العنف المفرط. تفاقمت أعمال الشغب التي شهدتها لوس أنجلوس آنذاك، لتصبح أسوأ تمرد داخلي في التاريخ الأمريكي. 

والآن، بعد أكثر من 25 عاماً، لا تزال وحشية الشرطة حاضرة كقضية مثيرة للانفعال والتنازع والجدل، وها هي تلك اللحظة المحورية يعود صداها الآن ليتردد بقوة في حادثة قتل جورج فلويد من قِبل شرطي بدم بارد، لتشعل الشارع من جديد.

المؤرخ بنجامين هيوستن عاد في الزمن عبر موقع HistoryExtra البريطاني، ليتقصى تلك الأحداث، علها تشكل دروساً وعبراً لأمريكا 2020.

https://www.facebook.com/watch/live/?v=2582154698553013&ref=watch_permalink

ماذا حصل في مارس/آذار 1991؟

كانت الساعة 12:30 من منتصف ليل 3 مارس/آذار 1991 عندما شرعت شرطة لوس أنجلوس في ملاحقة سيارة هيونداي بيضاء بعد الاشتباه في سائقها الذي كان يقود السيارة على نحو متهور. 

وبعد مطاردة استغرقت 10 دقائق، توقف سائق السيارة عند تقاطع شارع أوزبورن مع فوتهيل. 

كان الضابطان لورانس باول وتيموثي ويند أول المستجيبين للبلاغ، وسرعان ما انضم إليهما ثيودور بريسينو وضابطان آخران. 

في المجموع، شارك ما لا يقل عن 23 ضابط شرطة من مختلف دوائر الضبط القضائي بالمنطقة في عملية المطاردة والإجراءات اللاحقة، في الوقت الذي راقبت فيه طائرة هليكوبتر الأحداث من الجو.

وفي مسار يتماشى مع شراسة مستمرة حيال الأمريكيين من أصول إفريقية ومن أفراد الأقليات الأخرى الذين يوقفهم "جهاز شرطة لوس أنجلوس"، أُمر الراكبان بالخروج من السيارة، مكبلَين وتحت تهديد السلاح.

عندما تحول التركيز إلى سائق السيارة، رودني كينغ، كان حرياً بالمشهد أن يكون كوميدياً أكثر منه خطيراً. 

إذ كان كينغ قد شرب عدة زجاجات خمر مع أصدقائه، وكان مستوى الكحول في دمه ضعف الحد المسموح به للقيادة. ومن ثم، في أثناء محاولته الخروج من سيارته، تعثر كينغ بحزام المقعد الأوتوماتيكي للسيارة قبل أن يخرج فاتحاً قدميه، استعداداً لتفتيشه. 

لكن المشكلة أن الشرطة كانت تطلب منه بدلاً من ذلك أن يركع على ركبتيه رافعاً يديه. 

وبمجرد أن فهم كينغ ما يريدون، يبدو أنه رد بقليل من الرقص وهز مؤخرته وهو يلتفت، وما إذا كان ذلك متعمداً أم محض ترنحٍ بفعل الكحول، فهو أمر غير واضح.

ومع ذلك، وعلى الرغم من وجود دعم بما يقرب من 20 ضابطاً، فإن الضابط المشرف، الرقيب ستايسي كون، لسبب ما، تأهب وصعّد الموقف. 

فقد رأى رجلاً أسود ضخم البنية (طوله 190 سم ووزنه أكثر من 100 كغم) يتصرف على نحو غريب. 

وبعد رد الفعل الذي أبداه كينغ على لف ذراعه في أثناء تقييد يديه، استفاد "كون" من التهديد بسلاحه لتأكيد اتباع أوامره. ومع ذلك، فإن كينغ أكد في وقت لاحق، أنه طوال العملية، حاول باستمرارٍ اتباع أوامر الشرطة، رغم تناقضها واضطرابها، وأن جميع تحركاته كانت دفاعية لا عدوانية.

كما أوضح كينغ أنه عندما صرخ كرد فعل تلقائي في أثناء تقييد يديه، رُوِّع الضباط الذين يقومون بتقييده، وتراجعوا إلى الخلف. 


على النقيض من ذلك، تحدث "كون" عن هذه الملاحظة كما لو أنها إنجاز خارق، مشيراً، بحسب شهادته لاحقاً، إلى أن سلوك كينغ "المشوش وغير المتوازن" كان دليلاً على تعاطيه جرعة عالية من "الفينسيكليدين" (PCP)، وهو عقار مخدر يسبب الهلوسة ويُعرف باسم "غبار الملائكة".

في هذا الوقت تقريباً، كانت الضجة قد دفعت جورج هوليداي، وهو مصور هاوٍ، للقيام إلى نافذة شقته، ليبدأ في تصوير فيديو لما حدث. 

الشغب في لوس أنجلوس
أبرز ما تكشفه حالة كينغ، هو أن الأمر يتعلق بنمط كامل مستمر إلى اليوم: يتمثل في نوع من الانفصال الكامل بين الأحياء الداخلية للمدن مثل جنوب وسط لوس أنجلوس من جهة، وبين الضواحي الراقية/ web


ويذكر هوليداي أنه سمع أحد الضباط يصيح في كينغ: "سنقتلك يا زنجي، اركض". ربما كان هذا أحد أسباب عدم بقاء كينغ ساكناً، على الرغم من الضربات المتكررة الموجهة إليه من جميع الجهات من الضابطين بريسينو وباول وويند، اللذين قالا في شهادتهما لاحقاً، إنهما كانا يعتقدان أن كينغ يقاومهما أو يحاول الهرب.

لكن بغض النظر عن ذلك، أظهر مقطع الفيديو الذي صوره هوليداي بوضوحٍ أن كينغ كان يواصل التحرك، بطريقة تنم بلا شك عن ارتعاده وتوسله التوقف عن ضربه. 

ومع ذلك، فبمجرد سقوطه، تلقى مزيداً من الضرب وهو يصرخ متألماً ويحاول تفادي الضربات. 

وفي محاكمة ضباط الشرطة الذين ضربوا كينغ، اعترف الدفاع بأنهم كانوا يحاولون عمداً كسرَ عظام ساقيه وكاحليه. وبمجرد أن توقف كينغ عن الحركة وسكن على الأرض، وطأ بريسينو على عنقه، واستمر باول في توجيه الضربات بعصاه. 

استمر الضرب لمدة 81 ثانية.

في محضر الشرطة، وُصفت إصابات كينغ بأنها "عدة جروح في الوجه بسبب الاحتكاك بالأسفلت. لكنها جروح ثانوية. وشق في الشفة العلوية، والمشتبه به غير واعٍ بالألم". 

غير أن هذا التلخيص يتناقض تناقضاً صارخاً مع العدد الهائل من الضربات التي شوهدت في لقطات الفيديو، والتي أظهرت أن كينغ تعرض لما لا يقل عن 7 ركلات، و4 صعقات بمسدس صاعق (50 ألف فولت لكل منها)، و56 ضربة بهراوات الشرطة. 

وبعد إخضاعه، رُبطت يدي كينغ إلى قدميه معاً، وسُحب على الأسفلت، وقد سال دمه ولعابه في جميع أرجاء المكان.

جاء التشخيص لاحقاً، ليثبت إصابة كينغ بتسعة كسور في الجمجمة وارتجاج دماغي، وإصابة مستديمة في الكلى والدماغ، وكسر بعظم الوجنة وانسحاق في تجويف العين وتلف بالأعصاب وشلل جزئي في عضلات الوجه، وإصابات أخرى. 

وشهد الخبراء الطبيون بأن العظام المحيطة بالجيوب الأنفية "تحولت إلى مسحوق متفتت، كما لو أنه رمل". 

وربما الأهم من ذلك، أن الارتجاج فسّر السبب وراء بعض التصريحات المتناقضة التي أدلى بها كينغ بعد استقرار حالته.

التضارب والتضليل

يبدو أن التفاصيل التي ظهرت بعد ذلك بشأن كينغ عززت الرأي القائل بأن الشرطة كان لديها سبب وجيه للقلق حياله. 

فقد كان عامل بناء وسائق تاكسي عاطلاً عن عمل ثابت، وكان قد سبق إدانته بجناية، وعندما اعتُقل، كان قد خرج من السجن خروجاً مشروطاً بعد قضائه عاماً هناك بتهمة السرقة. 

لكن بالطبع، لم يكن هذا معروفاً للضباط الذين ضربوه في ذلك الوقت، ولم يكن ذا صلة بالواقعة. كما أن كثيراً من المعلومات الخاطئة التي اختُلقت أيضاً تسببت في مزيد من الانطباعات الخاطئة. 

فعلى سبيل المثال، جرى الإبلاغ عن أن كينغ كان يقود بسرعة 186 كيلومتراً في الساعة. ومع ذلك، فإن الأدلة الواردة عن الاختبارات اللاحقة على السيارة تشير إلى أن سيارة كينغ لا تستطيع بلوغ تلك السرعات، وأن قيادته كانت مجرد تهور وليس مجازفة بسرعات خطيرة، وأنه في الواقع كان يسير محتاطاً تجاوز الإشارات الحمراء.

ومع ذلك، يظل الأمر الأكثر إشكالية هو التناقضات التي تعج بها وثائق الشرطة ومحاضرها بشأن الأحداث. 


فعلى الرغم من أنه بحسب الأوراق كانت الشرطة قد اشتبهت في أن كينغ كان مسلحاً، لم يتم تفتيشه بحثاً عن سلاح. وعلى الرغم من افتراض أن كينغ كان متعاطياً لعقار مخدر، فإن أياً من الضباط لم يطلب إجراء اختبار للمخدرات. 

وقد أظهر فحص طبي لاحق نسبة مرتفعة من الكحول في دم كينغ، إلى جانب آثار تدخين للماريجوانا.

وما زال ثمة أمر أكثر مدعاة للدهشة يتمثل في دليل كشف طبيعة التعبيرات والمصطلحات الفظة التي جرت بها المناقشات والتبادلات بين الضباط خلال الواقعة بأكملها. إذ أظهرت السجلات أنه قبل 20 دقيقة من بدء المطاردة، حقق الضابط باول في حادثة شجار محلية بين زوجين أمريكيين من أصول إفريقية، ووصف الواقعة بأنها كما "لو أنها مشهد من فيلم غوريلّات في الضباب". 

وبعد ضرب كينغ، بعث كون برسالة إلى قسم الشرطة قائلاً: "لقد قضينا وقتاً ممتعاً في ضربه.. وقتاً ممتعاً في صعق وضرب المشتبه به في المطاردة على طريق كاليفورنيا السريع، وقتاً ممتعاً حقاً". 

وكان الرد: "ممم.. أنا متأكد أن ذلك السحلية لا يستحق كل ذلك الوقت".

أخذ الضابط باول المشتبه به كينغ إلى مركز الشرطة وليس المستشفى، كما لو أنه رغب في استعراض ضحيته أثناء روايته للأحداث أمام زملائه الضباط. 

أُلقي بكينغ في مؤخرة السيارة إلى أن ينتهي الرجال من ملء الأوراق. وفي وقت لاحق، بالمستشفى، واصل روتين سرد الأحداث مستخدماً استعارات رياضة البيسبول، وهو يقول مازحاً حول الأمر: "لقد لعبنا مباراة خشنة قليلاً" و"سددنا بضع ضربات قوية إلى الخصم".

الشغب في لوس أنجلوس
من المستحيل ادعاء أن فورة الغضب تلك جاءت مفاجئة دون سوابق إنذار/ LA Times

مجرد "انحراف"

في 4 مارس/آذار، اتصل هوليداي بمركز الشرطة المحلي، وعرّف نفسه بأنه شاهد على اعتقال كينغ. قيل له: "اهتم بشؤونك الخاصة ولا تتدخل في تحقيقات الشرطة". 

بعد ذلك، اختار بيع شريط الفيديو لمحطة تلفزيون KTLA مقابل 500 دولار. ثم اشترت شبكة CNN الفيديو لاحقاً، وسرعان ما انتشر الفيلم انتشاراً هائلاً. 

كان التأثير الفوري للتسجيل، بعيداً ربما عن الغضب والإدانة شبه الجماعية، إسقاطَ التهم الموجهة إلى كينغ، وفتح تحقيقات رسمية بحق الضباط. 

ومع ذلك، فقد كان قائد شرطة لوس أنجلوس، داريل غيتس، استثناءً ملحوظاً وسط إجماع على وصف الواقعة بأنها سلوك مُخز، إذ وصف حادثة الضرب الجماعي بأنها مجرد "انحراف". 

خلال القرن العشرين، اجتذبت أجواء المناطق المحيطة بلوس أنجلوس بطبيعتها المشمسة وظلال أشجار النخيل فيها الأمريكيين من أصول إفريقية والبيض على حد سواء، فقد اكتسبت المدينة طابع انتعاش الصناعات فيها وشهدت ازدهاراً في العقارات.

وعلى الرغم من حصرهم في قطاع الخدمات نتيجة للتمييز في الوظائف، تمكن السود من شراء منازل لأنفسهم هناك، وشهدت المنطقة اجتذاباً كبيراً لهم. 

ومع استمرار تدفق الأمريكيين من أصول إفريقية، أبدت المناطق المجاورة المسكونة بالبيض سلوكاً أكثر تشدداً رداً على ذلك. وظهر ما يسمى العقود المقيدة، التي حرصت على تنفيذها شرطة لوس أنجلوس، بحظر بيع المنازل إلى الأمريكيين من أصول إفريقية في بعض المناطق.

كانت النتيجة أن عدداً من أحياء السود، كل منها بشخصيته المميزة، امتزجت في منطقة واحدة كبيرة: جنوب وسط المدينة. 

وعلى نحو متزايد، باتت المنطقة مسكونة بذوي الأصول اللاتينية كما السود، غير متجانسة لكن يجمعها الانفصال المفرط جغرافياً واقتصادياً عن مناطق البيض. 

"ليسوا مذنبين"

يبرز هذا السياق العاملَ الحاسم في المحاكمة اللاحقة لضباط الشرطة المتورطين في واقعة الضرب المبرح لرودني كينغ: والمتمثل في نقل إجراءات المحاكمة إلى "سيمي فالي"، وهي ضاحية مرفهة تسكنها أغلبية من الطبقى الوسطى شمال لوس أنجلوس. 

كانت نسبة البيض 66% ونسبة الأمريكيين من أصول إفريقية 2% فقط في تلك الضاحية، زد عليها أن الحي كان شبه مقر شعبي لضباط الشرطة وأسرهم. 

وبالطبع كانت نتيجة ذلك، أن الأشخاص الذين اختيروا في نهاية المطاف أعضاءً بهيئة محلفين المحكمة (التي تألفت من 10 أشخاص بيض، وشخص من أصول لاتينية، وآخر من أصول أمريكية آسيوية) قد أعلنوا مواقف مؤيدة صراحةً للشرطة في أثناء عملية اختيارهم.

بداية الشغب في لوس أنجلوس

وفي الساعة 3:15 من مساء يوم الأربعاء 29 أبريل/نيسان 1992، أصدرت هيئة المحلفين حكمها بأن الضباط المشتركين في الواقعة "ليسوا مذنبين". 

إبان اعتقال كينغ، كانت الأجواء تضج بالاستياء بالفعل، بسبب واقعتين حدثتا وكانت لهما رمزية قوية في ذلك الوقت، إحداهما كانت حادثة مقتل فتاة متفوقة من أصول إفريقية تبلغ من العمر 15 عاماً، تُدعى لاتاشا هارلينز، على يد صاحب متجر كوري، اسمه سون جا دو. 

كانت شرارة الحادثة جدلاً بين صاحب المتجر والفتاة بشأن زجاجة عصير برتقال سقطت منها في المتجر؛ وهو ما دفع الرجل إلى اتهامها بالسرقة وإطلاق النار عليها ليرديها قتيلة. 

صدر الحكم على جا دو بتهمة القتل خطأ بغير عمد، والتي قرر فيها القاضي، رغم مطالبة المدعي بالعقوبة القصوى، الاكتفاء بمعاقبة المتهم بخمس سنوات تحت المراقبة وغرامة قدرها 500 دولار وقضاء 400 ساعة في أعمال خدمية للمجتمع. 

وخلال تلك الفترة أيضاً، في منطقة لونغ بيتش القريبة، رصد مقطع فيديو ضابطاً من أصول إفريقية في غير أوقات العمل يتعرض للدفع من شخص عبر نافذة إحدى السيارات خلال توقف مروري "روتيني". 

ومع ذلك، فقد انتهت المحاكمة اللاحقة، التي جرت في الشهر ذاته الذي وقعت فيه حادثة ضرب كينغ، بتعليق الحكم والإفراج عن المتهم؛ لعدم توصل هيئة المحلفين إلى حكم غالب.

أضرم تأثير هذه الأحداث المتتالية غضباً مشتعلاً في النفوس بشأن المعاملة التي تنتهجها الشرطة حيال الأقليات. 

إذ بين عامي 1986 و1990 فقط، أنفقت مدينة لوس أنجلوس 20 مليون دولار على تكاليف وغرامات مرتبطة بأكثر من 300 حالة عنف وحشي للشرطة. 

ويكفى مثالاً على تعمد شرطة لوس أنجلوس استعراض القوة، ذكر "العملية هامر" [المطرقة]، وهي حملة أطلقتها شرطة لوس أنجلوس على العصابات في عام 1988، واحتجزت خلال ليلة واحدة فقط منها 1453 شاباً في السجن، قبل أن تطلق سراحهم دون إبداء أي تفسير.

إذا استحضرنا كل ما قيل، يتبين لنا أنه كان ثمة غضب عارم يضطرم في النفوس بالفعل عندما صدر الحكم في قضية كينغ. 

وفي المحكمة، أعلن الغضب عن نفسه فور إقرار الحكم، بصيحات اعتراض، ونقلت شاشات التلفزيون اشتعال النيران في أجزاء مختلفة من المدينة.

ومع ذلك، لم تفعل الشرطة شيئاً، في انتظار الأوامر من قيادة سياسية غير عازمة على رأي ومستعدة -على ما يبدو- للسماح بحرق الأحياء التي يُفترض بهم حمايتها. 

على مدى الأيام الأربعة التالية، استمرت أعمال التخريب، وأسفرت عن مقتل أكثر من 50 شخصاً، واقتربت تكلفة الأضرار التي وقعت بالممتلكات قرابة مليار دولار. 

في بعض الأحيان بدا الغضب مفرطاً: نهب حي سلفادوري، وإحراق مبنى سكني، وتحطيم نوافذ المتاجر الصغيرة. وفي حالات أخرى، بدا مثيرو الشغب أكثر توجيهاً لأفعالهم: على سبيل المثال، كانت معظم الشركات التي أُحرقت تابعة لسلاسل متاجر تعود لشركات وطنية كبرى. 

وأوضح أحد المارة السبب وراء ذلك، بأنهم "يبالغون في أسعارهم، وهم رجال أعمال بيض"، كما أن مثيري الشغب كانوا "يستهدفون شركات التأمين، وهي شركات مملوكة للبيض أيضاً".

"هل يمكننا جميعاً التعايش معاً؟"

خلال الفترة المتبقية من شهر مايو/أيار وحلول الصيف آنذاك، عندما بدأت الاضطرابات في الانحسار وسيطرة الحرس الوطني على الأمور، جاءت التداعيات جسيمة. 

إذ اشتعلت اضطرابات أخرى في شيكاغو وأتلانتا وميامي وسان فرانسيسكو. وتسببت الدعوات المتصاعدة لاستقالة قائد جهاز الشرطة داريل غيتس في جدلٍ سياسي احتدَّ لأشهرٍ، قبل أن يتنحى أخيراً في يونيو/حزيران 1992. 

كما دفعت الأحداث العمدة توم برادلي، وهو شرطي سابق من أصول إفريقية كان يتولى المنصب منذ عام 1973، إلى اختيار عدم الترشح لإعادة انتخابه مرة أخرى في ظل التقييمات شديدة السوء من الناخبين. 

وأصدرت عديد من لجان التحقيق تقارير تنتقد بشدةٍ العنصرية المتأصلة في شرطة لوس أنجلوس والممارسات التي تنتهجها.

وفي أغسطس/آب 1992، اتُّهم الرجال الأربعة الذين ضربوا كينغ بانتهاك حقوق المدنية. 

بعد ذلك بعام، أُدين باول وكون، لكن الغضب عاد ليشتعل مرة أخرى عندما قرر القاضي جون جي ديفيس تقليصَ العقوبة إلى 30 شهراً في السجن، وهي عقوبة أقل بكثير من المنصوص عليه في المبادئ التوجيهية الفيدرالية. 

وعلى الرغم من أن ثمة أدلة تقدم بها الدفاع كانت كافية لتغليظ العقوبة، فإن المحكمة لم تقبل بها.

تبنت شرطة لوس أنجلوس، تحت قيادة جديدة، نموذجاً مختلفاً يقوم على مفهوم "الشرطة المجتمعية"، في محاولة لتضميد الجروح، كما وضعت الأساس لسبل جديدة ترمي إلى إشراك المواطنين والحد من استخدام القوة. 

ومع ذلك، فإن شعور الانقسام استمر. 

ماذا حصل لرودني؟

وماذا عن الرجل الذي وجد نفسه في خضم هذه اللحظة البارزة من تاريخ البلاد؟ 

استمر رودني كينغ في مصارعة أزماته الشخصية، حتى بعدما كتب مذكراته التي دعا فيها إلى التسامح وظهر في برامج تلفزيون الواقع لتهدئة الشغب في لوس أنجلوس. 

أصبحت كلماته الشهيرة "هل يمكننا جميعاً التعايش معاً؟"، التي دعا بها إلى الهدوء خلال اليوم الثالث من أعمال الشغب، بياناً ينطوي على مرارة ساخرة. 

صارع الإدمان بقية حياته، وكان لديه عديد من الاحتكاكات الأخرى مع الشرطة. وفي 17 يونيو/حزيران 2012، وُجد غارقاً في قاع حمام السباحة الخاص نتيجة مزيج قوي من المخدرات والكحول.

بغض النظر عن أي شيء آخر يمكن أن يقال عن هذا الحادث وموقعه من تاريخ الولايات المتحدة، فمن المستحيل ادعاء أن فورة الغضب تلك جاءت مفاجئة دون سوابق إنذار. 

ظهرت "أدلة" مماثلة على ممارسة الشرطة سلوكيات عنيفة تحمل كراهية صريحة، في جثامين أشخاص آخرين في الفترة ذاتها، ومع ذلك جرى تجاهلها لاحقاً. 

إن أبرز ما تكشفه حالة كينغ، هو أن الأمر يتعلق بنمط كامل مستمر إلى اليوم: يتمثل في نوع من الانفصال الكامل بين الأحياء الداخلية للمدن مثل جنوب وسط لوس أنجلوس من جهة، والضواحي الراقية.

هذه الحواجز بين هذين العالَمين تتولى الشرطة حصة كبيرة من ترسيخها، مستندة إلى فكرة الحفاظ على "خط أزرق رفيع" –كما قال أحد المحامين في قضية كينغ- يفصل ما بين "مواطنين ملتزمين بالقانون والغابة التي تحيط بهم". 

تحميل المزيد