ثمة قناعة راسخة عند الكثير منا تدفعهم إلى الاعتقاد بقصور مجتمعاتنا العربية والإسلامية وعجزها عن تقدير مصلحتها، وأن إطلاق العِنان لها لا يقودُ إلَّا إلى الفوضى والتسيُّب، لذلك كان لابد من وصاية فوقية عليها، حتى وإن أدى ذلك إلى قهرها بالسَّوْط لتقويم اعوجاجها لكي تنضبط وتستقيم، مستندين إلى ما يرصدونه من أخلاق المجتمع المنفلتة ومن أعطاب الأمة العميقة، ومعتبرين أننا بصدد طَبع متجذِّر لديها غير قابل للتغيير أو التعديل، وأنَّ وحدَهم الذين حكموها بالحديد والنار هم مَن أدركوا ذلك، فأحسنوا التعامل معها بالأسلوب الذي يلائمها.
مناسبةُ عودةِ هذه القناعةِ إلى الواجهة وبقوةٍ هو السلوكُ الشعبيُّ إزاء الحجر الصحيِّ الناجمِ عن الجائحة الفتَّاكة، التي استُغلت من أجل إعادة تدوير الخطاب المتحمِّس للتوسُّع في الإجراءات القمعية غير المنضبطة بحق المجتمع.
واللافت هنا أن هذا الخطاب لا تجد صداه يتردد عند شريحة دون أخرى، فقد يصدر من عامة الناس مثلما يصدر من متعلمين ومثقفين، بل ومن بعض كبار المفكرين أيضاً.
الحقيقة أننا بصدد تفكير مأزوم يتجه نحو الحلقة الأضعف دائماً، فيُبالغ في تقريع الشعوب وتحميلها شرور الدنيا كلها، دون أن تكون لديه الجرأة للتساؤل عن مسببات نقائصها، ودون أن يوجه أصابع الاتهام إلى مَن يتحمَّل مسؤولية ذلك. فيستغرب أصحابه من عدم التزام قطاعات واسعة بإجراءات الحجر الصحي وتجمهرها بشكل عشوائي بالأسواق والمحلات التجارية، وكذا يستهجنون احتكار بعض المنتجات ورفع أسعارها من طرف عدد من صغار التجار، ولا ينسى أولئك وهم يستمرون في نظرتهم الاختزالية تلك أن يقوموا بتذكيرنا بالغش المجبول عليه المجتمع، وبغياب الإحساس بالمسؤولية لديه، وبالفساد وتنامي الجريمة، وحالة اللانظام التي تطبع حركته.
هكذا تنال السلطة العربية صك براءة من كل ما يجري، فتتحول من الداء الجاثم على جسد الأمة إلى ذلك المنقذ الذي لا غنى عنه لصد غوغائية العامة الذين قد يقودون البلاد إلى الهاوية إن تُرك الحبل على الغارب لهم. وحتى إن ثبت تقصير السلطة في تدبير ملف معين بما لا يمكن التستر عليه فهم لا يلومونها بقدر ما يلومون الشعوب، التي بأصواتها الانتخابية تختار من يجني عليها، والنتيجة التي يَخلُصون إليها من ذلك أن الشعوب لا تستحقُّ هامشَ الحريةِ والديمقراطية الذي يُفتح لها على ضِيقه.
لا ننكر هنا أنَّ المجتمعات العربية والإسلامية تعاني من أعطاب وعيوب كثيرة، لكنها لا ترقى إلى مستوى الخطايا القَدَرية التي لا سبيل لتغييرها، ودور الدولة في معالجتها واجب، وهي من تحتكر كل الفضاءات العامة والخاصة، وهي التي تُشرِف على التربية والتعليم، وتُوجِّه الإعلام، بل وتُحصي أنفاسَ أفراد الشعب منذ عقود، حتى تشكَّلت الأجيالُ تلو الأجيال في نَسَقِها محكمِ الإغلاق، ومع ذلك فهناك من يعفيها من مسؤوليتها ويُقزّمها في الجانب الردعي، عبر مطالبته بحمل الناس على ما يَعتقد أنه هو الصواب بالسوط وبالإكراه.
المفارقة أن المقاربة الردعية على سوءاتها لا تُستَخدم لإصلاح المجتمع وإن زعم مناصروها ذلك، وهي لا تُوَظَّفُ إلا مطيةً لشرعنة عنف الدولة تجاه كل من يخالفها، في الوقت الذي تتغاضى فيه عن تجاوزات بعض الجيوب المجتمعية، بل وتتعمد تركها دون أن تُحرّك ساكناً كشكل من أشكال الريع الذي يوهب لقطاعات من المجتمع بغية إسكاتها وابتزازها وقت اللزوم، ذلك أن الفساد الأكبر ما كان له ليستقرَّ في أعلى الهرم لولا تلك الجيوب الفاسدة الساكتة عنه، فلا قيمة لرأس الأخطبوط من دون أطرافه. وهو ما يظهر بشكل جليٍّ في التعامل الانتقائي مع حالة الطوارئ الصحية التي استُغلت لإظهار سادية المسؤولين على عامة الشعب وإشباع شَبقهم السلطوي، دون توفير حلول واقعية لهم، فيما يُبْحَثُ لكبار القوم عن تخريجات تُجنِّبهم آثار الحجر الصحي السلبية على مصالحهم.
آفة سوط المستبد أنه يقمع أي صوت يُحذر من أن الأمور ليست على ما يرام، فتفوته فرصة معالجتها قبل أن تتفاقم بفعل قهرِه للناس، وإيغار صدورهم بأحقاد كامنة تُسهم في تفكك المجتمع على المدى البعيد، الشيء الذي يجعل البلد هشاً معرَّضاً للتصدُّع، وربما للانهيار، جرّاء أية هزة تعترضه. فليس الطاغيةُ مَن يحمي البلد من التسيُّب، على العكس من ذلك فهو لا يُغادِر كرسيَّه حتى يحول البلاد إلى خراب، ثم تبدأ المشاكل الناتجة عن تدبيره الكارثي في المرحلة التي تليه، ليتهيأ للبعض أن تردّي الأوضاع بفعل نظامهم الجديد، فيما هم يُسدِّدون الفاتورة الباهظة التي خلَّفها لهم فرعونهم السابق.
وأخيراً فإنَّ هيبة الدولة وحصانة المجتمع تتجلّيان في إقامة العدل، وفي حفظ كرامة العباد، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه منهم، حينئذ يمكن للمجتمع أن ينضبط بالقانون، وأن تتعايش مكوناته بأمن وسلام، أما السَّوْطُ فهو يَطبع المجتمع بطابع عنيف محتقن، وهو ما يؤدي به إلى تصريف كبته فيما بينه بأساليب خشنة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.