رغم أن وباء كورونا لا يزال يمثل رعباً عالمياً مع ارتفاع حالات العدوى والوفيات، تسارع الصين من خطواتها لاستغلال تداعيات الفيروس كي تعلن عن وجودها كقوة عالمية مسيطرة، فماذا يعني إحياء "قومية الذئب المحارب"؟
مجلة The Diplomat الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "كيف تتغيَّر القومية الصينية؟"، ألقى الضوء على الحرب الباردة الجديدة بين بكين وواشنطن والتي حفَّزَها تفشي جائحة كوفيد-19.
فبينما يرتعد المواطنون في الولايات المتحدة والصين على حدٍّ سواء من تبعات الجائحة، أو الاضطراب المتواصل المُصاحِب لها، يرى الصقور السياسيون الأمريكيون والصينيون هذه الجائحة باعتبارها فرصةً مثاليةً لبعض الترسيخ الأيديولوجي. يرى المحافظون الجدد في الغرب في جائحة كوفيد-19 انفتاحاً محورياً من أجل تقويض ما ينظرون إليه باعتباره تهديداً رئيسياً وأيديولوجياً للنظام الليبرالي الغربي، بينما يرى الصقور الصينيون ردَّة الفعل تجاه الشركات الصينية، لا سيَّما الشركات الصينية بالخارج -وهي ردَّة فعلٍ تفاقَمَت بسبب الجائحة الحالية- كدليلٍ على إثبات صحة وجهتهم المُتمثِّلة في أن فقط التشديد العدائي والدفاعية المولعة بالصراعات هما ما يمكنهما "دعم" مصالح الصين على المسرح العالمي.
المنعطف الداخلي للقومية الصينية
يتمثَّل مُكوِّنٌ حاسمٌ ورئيسي في الاستجابة الصينية لجائحة كوفيد-19 في نشر القومية التي تفرضها الدولة، والتبني الضمني للقومية على المستوى الشعبي، وبينما حفَّزَت أزماتٌ سابقة استجابةً مُشابِهة، تمثِّل أزمة كوفيد-19 حدثاً فارقاً في التاريخ السياسي الصيني، وتختلف تداعياته على القومية الصينية عن الحملات القومية الماضية من عديدٍ من الجوانب.
أولاً، تغيَّر الجمهور المُستهدَف بالخطاب القومي بشكلٍ كبير من جمهورٍ مُختَلَط يتنوَّع بين دولٍ أجنبية وسُكَّان محليين، إلى السُكَّان المحليين بصورةٍ أساسية، ولاحظ العديد من مراقبي الشأن الصيني صعوداً في اتجاه "دبلوماسية الذئب المُحارِب".
ولطالما ردَّدَ الدبلوماسيون الصينيون خطاباً صريحاً، وفي بعض الأحيان عدائياً، في مواجهةٍ مباشرة ضد ما يتصوَّرون أنه "تدخُّلٌ أجنبي" في الشؤون الداخلية الصينية، لكن جائحة كوفيد-19 فتحت الباب اليوم أمام الرد مباشرةً على مُنتقِدي استجابة النظام الصيني للأزمة، ومثل هذا الخطاب الدفاعي يكتسب مصداقيةً في عيون الجمهور الصيني، بفضل التوسُّع المتزايد لما كان في السابق هامشاً في النقاشات الدولية حول الصين -الرفض العرقي للشعب الصيني المُصاحَب بتنويعةٍ من المجازات والاستعارات المُسيئة للمواطنين العاديين في الصين.
وَجَدَ الدبلوماسيون الصينيون -والكثير منهم شبابٌ يقِظون وحريصون على الترقي في وزارة الخارجية الصينية- صدىً لدى المواطنين المحليين المُغرَمين بـ"الثبات" الاستعراضي، بينما يحرقون في الوقت نفسه الجسور مع الأطراف الخارجية بظهورهم الإعلامي المولع بالصراعات والملتبس.
وإنه لمن الواضح بصورةٍ متزايدة أن الدبلوماسيين لا يتحدَّثون إلى جمهورٍ أجنبي، بل يُوجِّهون خطابهم إلى "مُستهلِكين محليين" يبحثون في خِضَم أوقاتٍ من الاضطرابات النسبية عن خطابٍ حماسي، وشغوفٍ في بعض الأحيان، دفاعاً عن الأمة الصينية، ودافَعَ "الحلم الصيني" الذي قدَّمَه شي جين بينغ سابقاً عن إقامة علاقاتٍ اجتماعية/ثقافية، وعلاقاتٍ تبدو مبنية على أساس الاحترام، مع الدول المجاورة لبلده، وقد تنحَّى كلُّ ذلك جانباً لصالح استعراضاتٍ باطنية للولاء والتفاني من أجل الدولة الصينية.
ومن وجهة نظر بكين، فإن أشدَّ ما تحتاجه هو مجموعةٌ من الدبلوماسيين الواثقين، والذين هم ربما "مستعدون لأيِّ قتال"، لتهدئة الاضطراب العام بشأن المكانة الدولية للدولة الصينية. ربما أفضل ما يُلخِّص هذا المحور التكتيكي هو عبارة صينية تعني "تصدير المبيعات المحلية"، والمعنية بإعادة توجيه البضائع المُصدَّرة والقابلة للتصدير صوب البيع والاستهلاك المحلي، وفي هذه الحالة، فإن القومية الصينية هي ما يُباع هنا، والمُستهلِكون الجدد هم السُكَّان الصينيون الذين ضربتهم جائحة كوفيد-19.
وليس من قبيل المصادفة إذاً أن تسعى هذه النسخة الوليدة من القومية الصينية إلى إدماج خبرات الشتات الصيني عبر العالم في مجتمعٍ صيني ممتدٍّ ومُتخيَّل ومتمركز حول نفسه، ولقد صنَّفَت الخطابات الأخيرة للمسؤولين الصينيين، مثل مُتحدِّثي وزارة الخارجية، باتِّساقٍ، ردَّة الفعل العكسية تجاه المواطنين والمهاجرين الصينيين بالخارج باعتبارها هجمةً على "سُكَّان الصين بأسرهم".
تمثِّل جائحة كوفيد-19 تحوُّلاً مهماً في الطريقة التي يفهم بها العامة الصينيون مسؤوليتهم الأخلاقية، ومن الجهر بالتنديد بالإساءة التي تُوجَّه نحو المنتمين إلى العرق الصيني في الغرب، وضرب بعض النقاشات الهامشية في الغرب التي تُروِّج لنظرياتِ مؤامرةٍ حول أصل فيروس كوفيد-19، سعى الدبلوماسيون الصينيون بحماسٍ إلى تصوير التداعيات السياسية المتواصلة لجائحة كورونا المُستجَد على أنها عدوانٌ عرقي على كافة الصينيين، بصرف النظر عن قومياتهم أو مواطنتهم السياسية.
غير أن هناك بعض الحقيقة في ذلك بلا شك، فهناك بالفعل عودةٌ لكراهية الأجانب المُحافِظة واليمينية التي تسعى إلى شيطنة كافة الصينيين، بغض النظر عن معتقداتهم السياسية أو مواطنتهم. لكن من الواضح بالقدر نفسه أن الدفاع الشرس من جانب بكين عن الشتات الصيني يمثِّل خطوةً استراتيجية من أجل صرف انتباه التركيز الإعلامي عن الأسئلة الدائرة حول المسؤولية المزعومة للدولة الصينية عن تفشي كوفيد-19.
لكن ما الذي يفسِّر هذا المحور الداخلي في القومية الصينية؟ وما الذي يفسِّر تكثيف الخطابات المُوجَّهة محلياً وانحساب القومية الصينية "المُوجَّهة إلى الخارج"؟
لمحةٌ تاريخيةٌ موجزة
تسعى القومية الصينية، كما يراها بجدارةٍ سي شينغ تشاو، أستاذ السياسة الصينية والسياسة الخارجية بجامعة دنفر الأمريكية، إلى توجيه المجتمع المُتخيَّل الخاص بها حول سرديتين مزدوجتين: 1) أطروحةٌ سلبية لمقاومة الإذلال الغربي الإمبريالي. 2) أطروحة إيجابية للفخر القومي بالإنجازات الجماعية في البلاد، تلك الإنجازات التي تُنسَب إلى التضحيات الجماعية والعمل الجاد بيد الشعب الصيني.
ولاحظ البعض أن القومية الصينية في حقبة ما بعد دينغ تشاو بينغ كانت قد أصبحت عدائيةً بصورةٍ متزايدة، إذ تبنَّت خصائص ما يُطلَق عليه القومية "الحازمة" أو "العدوانية". يشير المصطلح الأول إلى الجهود الصينية المتواصلة من أجل إثبات نفوذها ومكانتها على الساحة العالمية، والأخير إلى التصعيد العسكري والخطابي للصين تجاه الغرب.
وكلا المصطلحين يُحدِّدان المسار الذي تسلكه الصين -التي وصفها آخرون بأنها قوة اقتصادية سريعة النمو في ظلِّ الهيمنة الأمريكية- باعتباره تعدياً جوهرياً على النظام العالمي. والأهم من ذلك، أن هذه الأُطُر تعامل خطاب ورمزية الدولة الصينية باعتبارهما أداتين تتفاعل بواسطتهما هذه الدولة مع نظرائها العالميين -وبالتالي يتوجَّه تشخيص ذلك نحو تصوير القومية الصينية باعتبارها قوةً دولية لا ظاهرةً محلية.
على الجانب الآخر، فإن أولئك الذين يشخِّصون القومية الصينية باعتبارها قضية محلية سعوا في الغالب إلى تفحُّص القضية من خلال عدساتٍ ثقافوية للمركزية العرقية الصينية والتوتُّرات بين أغلبية الهان والأقليات العرقية الهامشية، وهذا الإطار التحليلي يتمتَّع بميزة تفسير وتحديد التفاعلات السياسية المحلية التي تحفِّز الخطاب القومي في الجذور الشعبية الصينية، لكنه أيضاً يقدِّم سرديةً مُقنِعة لتأسيس المجتمع المُتخيَّل الذي تُصاغ مثل هذه القومية حوله.
إلا أن ما يبدو أنه مفقودٌ في هذا التحليل هو التوضيح الصريح للارتباط بين المصالح والحركات السياسية المحلية والمُتعلِّقة بالدولة من ناحية، والسياسة الخارجية من ناحيةٍ أخرى، فليس هناك أيُّ حسابٍ للدور الذي يضطلع به الساسة والأطراف المحليون الذين يوجِّهون نظاماً شبكياً استبدادياً شديد المركزية، والذي قد يسفر عن نتائج مفيدة ومشروطة للبعض، لكنه لا يزال يعاني من مظاهر خللٍ كبيرة في مجالاتٍ أخرى.