مازالت الدراسات المستقبلية عند المسلمين ضعيفة جداً، مقارنة بما يفعله الغرب والشرق، فهذا الحقل المعرفي العلمي الزاخر والمعالج والمقارب لآفاق الخرائط ومعالم الغد لا يحظى بالمكانة التي يستحق.
يقول الله سبحانه وتعالى: "وَلْتَنْظُر نَفْسٌ مَا قدَّمَتْ لِغَدٍ"، ولعل من معاني هذه الآية النظر لغد والتخطيط له والإعداد، بما يعنيه من توقع، ومن حساب ضروري لأي أمة تريد أن تكون قوية.
ولَربما قصة سيدنا يوسف عليه السلام في رؤيا السنوات العجاف ترسم معالم علم مازال يحتاج الاستكشاف والتطوير بين المسلمين.
في التجربة الغربية الإنسانية هناك تراكم مهم، في ميادين الصراع المختلفة. وبينما يجتهد الباحثون في حدود مفتوحة للبحث عن الممكن والمحتمل والأفضل تختلف الوجهة عند صُناع القرار، إذ يحرصون على ألا يخرج شيء عن السيطرة والتخطيط المسبق، لكن وباء كورونا خرج عن هذه القاعدة وفاجأ العالم بأسره، ورأينا كيف انهارت أنظمة صحية، وتضاربت الروايات والاتهامات، وانهار سوق النفط، وهُددت اقتصادات.
في عالم الاستشراف، الدول الكبرى درست منطقة المسلمين جيداً، ورصدت نقاط الضعف والقوة، ومختلف الثروات، وطبيعة الأنظمة، ومختلف الفاعلين، فهي تتحكم في الأنظمة بما تمتلكه من وسائل الضغط المختلفة والابتزاز تارة أخرى، وبسيادتها في عدد من المجالات والمؤسسات الأممية.
فما هي معالم العالم ما بعد كورونا في منطقتنا وعندهم؟
نشرت عدة مجلات أكاديمية غربية، على غرار foreign affairs سيناريوهات مستقبل العالم بناء على ما سبق، وقد حصرتها في 12 صورة ممكنة، من بينها تقوية مفهوم الدولة وتعزيز الوطنية، وهو طرح له واقعيته بعد حراكات خلخلت الوضع. وفي ظل أنظمة غير ديمقراطية، فالوطنية هي الولاء لأنساق مختلة، والدولة هي التسبيح بحمد الحاكم.
كما أن سن إجراءات طارئة لإدارة الأزمة سيدفع في ظل السياق العام بمنطقتنا إلى رغبة جامحة في عدم التخلي عن المساحات الجديدة التي قد تخلفها كورونا هنا وهناك.
يمكن أيضاً الوقوف على تراجع كبير لصورة الغرب المسيطر المتقدم، فيما هناك صعود طفيف للشرق تتزعمه الصين، التي صارت أكثر رغبة من أي وقت مضى بعدما اكتسبت تجربة مهمة واستفادت من مرحلة القطيعة، لتصبح أكثر تنافسية من ذي قبل، وبالموازاة ظهرت رغبة فرنسية وألمانية كبيرة في تقاسم ريادة العالم.
حيث تتحدث الصحافة الفرنسية عن نظام دولي سابق، وتطالب بشكل واضح برسم معالم نظام دولي آخر بمقومات أخرى، رفعت هي شعارات لها، لكن ممارساتها وماضيها الأليم بإفريقيا لا يجعل ذلك منسجماً.
هناك انحصار كبير لمفهوم العولمة، وما دامت منظمة الصحة العالمية تقول إن الوباء مازال بين ظهراني العالم، فستظل العولمة مختنقة إلى حين.
تأكد مع كورونا مؤقتاً فشل القيادة الأمريكية التي تلقت سيلاً كبيراً من الاتهامات، كما أنه لا يمكن إغفال سلاح المساعدات الإنسانية بمنطقتنا أو بالعالم، الذي يتقمص ثوب الإنسانية ليصرف أهدافاً مرسومة أمنياً وعسكرياً واقتصادياً، ويوضح توجهات المانحين ومختلف مصالحهم بتنوعها الثقافي والأيديولوجي.
ففيروس كورونا أوجد البيئة المناسبة للأزمة، لتصريف هذه المساعدات بعد اضطراب خلّفته الحراكات ومختلف أحداث النقاط الساخنة بمنطقتنا. فبعد مرحلة استهجان التدخل الأجنبي أعطى سلاح المساعدات الدولية الغطاء المناسب في الوقت الذي تحتاج فيه كل المجتمعات لمساعدة بعضها، لكن في ظل نظام عولمي طاغٍ ظالم مصلحي، تأخذ المساعدات شكلاً سياسياً ودبلوماسياً، فيهدف إلى الدعاية هنا، وتغيير مزاج الرأي العام هناك، أو يرسم صورة داخلية عند المواطن البسيط أن بلده قوي مهما كان متخلفاً وغير ديمقراطي. فهو يتخيل دولته القادرة على تقديم المساعدة أنها قوية، مهما كان غارقاً هو في الفقر والقهر، يتابع بسذاجة ماكينة إعلامية محترفة في التضخيم والفخفخة.
وقد تأخذ المساعدات أيضاً دعماً لأنظمة صديقة، بتوجهات سياسية معينة، أو مرضيّ عنها، فيما تتزعزع الثقة في جهة.
إن كورونا بالمجمل أعطى مساحات كبيرة للتحرك الدبلوماسي، وهو ما يدفع بتغيير كبير على مستوى الخريطة الدولية، في تموضعاتها السياسية والاقتصادية، وسيكون للمنتصرين الكلمة الكبرى، بحسب الأدوار التي يلعبونها، الأكثر فاعلية وتأثيراً وتغييراً وتحركاً على مختلف الأصعدة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.