ما من حديث في الأوساط السياسية الليبية إلا عن قوات فاغنر التي غادرت جنوب طرابلس بمئات العربات والمجنزرات والمنظومات الدفاعية نحو مدينة بني وليد والجنوب الليبي؛ وأثارت تصريحات متتالية ونقد لاذع من الولايات المتحدة الأمريكية وقائد قوات الأفريكوم الأمريكية غضب روسيا، التي حاولت أن تبين أن ذلك يأتي ضمن "قصص الرعب" التي تنشرها أمريكا حول ليبيا، في حين حاول مسؤولون ليبيون الحديث عن إعادة تموضع لروسيا من الغرب إلى الشرق الليبي.
هذه التطورات وغيرها دفعت المهتمين بالشأن الليبي إلى التساؤل عن الموقف التركي من هذه التحركات الروسية، مع إمكانية إعادة السيناريو السوري في ليبيا، فهل روسيا ستخرج من ليبيا أم أنها قد وضعت استراتيجية كاملة للوجود في ليبيا، لتكون في مقابل السواحل الأوروبية؟
قصة فاغنر في ليبيا
يبدو من الضروري الآن الحديث عن التدخل الروسي في ليبيا: منذ متى؟ وكيف؟ وما هي مؤشرات اهتمام موسكو بليبيا ودعمها لحفتر؟
في مايو/أيار عام 2016، طبعَ المصرف المركزي بالشرق الليبي الذي يرأسه السيد علي حبري، ما يعادل 4 مليارات دينار ليبي؛ أي ما يقابل (2.8 مليار دولار) عبر شركة روسية. وفي يناير/كانون الثاني من عام 2017، كانت زيارة خليفة حفتر لحاملة الطائرات الروسية (الأدميرال كوزنيتسوف)، وذلك خلال عبورها المياه الإقليمية الليبية في طريق عودتها من سوريا إلى روسيا. بعد ذلك توالت الأنباء -كما في تقرير نشرته ديلي تليغراف (15 مارس/آذار 2017)- عن وجود طائرات ميغ 23 في الشرق الليبي، وعن وجود لقوات خاصة روسية في مصر تعمل لصالح خليفة حفتر. ورغم التصريحات المتتالية عن دعم الحل السياسي، فإنه بعد العدوان على طرابلس بدأ الحديث عن وجود روسي في طرابلس بعد تحقيق نشرته صحيفة "المونيتور" الفرنسية للكاتب كريل سيمينوف" (12 مايو/أيار)، عن حقيقة مقاتلين روس قبضت عليهم السلطات الليبية في طرابلس؛ ويرجع هؤلاء الروس إلى منظمة تسمى "ترول فكتوري"، وهي منظمة تجمع كثيراً من المواقع الإعلامية والمؤسسات السياسية التابعة لـ"يفغيني بريزغوهين" المعروف برئيس طهاة بوتين أو طباخ الرئيس.
وبعد مراسلات بين موسكو وطرابلس حول المعتقلين لم يصل الطرفان إلى نتيجة؛ في تلك الأثناء كان لقاء الجمعية العامة للأمم المتحدة وتوجُّه الرئيس فايز السراج إلى واشنطن، وهنالك أجرى لقاء مع قناة فوكس نيوز الأمريكية. في تلك الفترة تحديداً، بدأت الصحف الأمريكية تُظهر التدخل الروسي في ليبيا، وتشير مصادر خاصة إلى أن خلافاً جرى بين السلطات في طرابلس وموسكو حول إطلاق سراح المعتقلين، فموسكو لا تريد إثارة الموضوع، في حين كانت حكومة طرابلس تريد لقاء مع الرئيس بوتين؛ لكسب مكاسب سياسية في معركتها بطرابلس؛ الأمر الذي أدى إلى خلاف بين الطرفين، ويبدو أنه كان آخر الملفات التي جعلت المجلس الرئاسي يميل كل الميل إلى المعسكر الغربي.
بمراقبة المشهد سنجد أن الحملة نفسها التي تديرها قوات الأفريكوم اليوم في منتصف 2020، هي التصريحات نفسها التي نشرها موقع بلومبيرغ نفسه (25 سبتمبر/أيلول) عن وجود 1200 مقاتل روسي في ليبيا. الأمر ليس بجديد لكن سياقات سياسية محددة هي التي تحرك تلك الماكينة الإعلامية، فهل التصريحات اليوم حقيقية وتعبر عن مخاطر حقيقية من تكرار السيناريو في ليبيا؟
هزيمة فاغنر في طرابلس
كان المشهد مخزياً حقاً بالنسبة لروسيا، فبعد تدمير 8 منظومات للدفاع الجوي الروسي، وتقدُّم حقيقي في الساحل الليبي والسيطرة على قاعدة الوطية والتقدم في جنوب طرابلس، يشاهد سكان "بني وليد" على قارعة الطريق جنوداً روساً مدججين بالسلاح، يمشون في الأسواق ويزاحمون الطريق بعرباتهم المصفحة، بعضهم يتجه لمطار بني الوليد؛ لتأخذهم طائرات شحن إلى روسيا، وبعضهم -وفق تصريح المتحدث باسم الجيش الليبي محمد قنونو- إلى الجنوب الليبي.
الغريب أن بعض الطائرات التي جاءت إلى بني وليد جاءت محملة بالذخائر؛ هذا أثار أسئلة حول النية الحقيقية لروسيا، هل ألقت السلاح أم أنها تريد التموضع في بني وليد لمحاربة مصراته؟ لكن في سياق متواصل ذكر تقرير نشرته قوات الأفريكوم عن وجود طائرات ميغ 29 روسية مقاتلة قد حطّت في قاعدة الجفرة وسط ليبيا، تزامنت مع تراجع قوات فاغنر من طرابلس. هنا يمكن وضع عدة احتمالات نذكرها ونحاول الترجيح بينها:
- روسيا ستظل في ليبيا وتقاتل قوات حكومة الوفاق، لأنها تسعى للنفاذ إلى شمال إفريقيا.
- روسيا ستحمي الشرق الليبي (والجنوب كذلك)؛ لتحسين ظروف المفاوضات السياسية القادمة.
- روسيا وصلت لاتفاق مع تركيا، ووضعت لذلك استراتيجية خروج تحفظ ماء وجهها وتحقق مصالحها.
روسيا في شمال إفريقيا
منذ الحرب العالمية الثانية وُزِّع النفوذ بين الحلفاء المنتصرين في الحرب، بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، ووضعت استراتيجية الحلف الأطلسي التي تقضي بمنع وجود روسيا في شمال إفريقيا، وهذه الاستراتيجية نجحت رغم نجاح روسيا في التعامل مع الدكتاتوريات التي تحكم العالم العربي في توريد السلاح والطائرات والدفاعات الجوية، لذا فإن الحديث عن قوات بأعداد كبيرة في ليبيا مسلحة بالعتاد والمنظومات الجوية قد أثار حفيظة قوات الأفريكوم وجعلها مستعدة لمجابهة روسيا، إذ إنها ترى أن هذه الخطوات استراتيجية وخطيرة ولا تتعلق فقط بسياق الأزمة الليبية، هذا يمكن فهمه من خلال تقرير قوات الأفريكوم الذي أكد أن القوات الروسية تسعى لتحقيق مصالح روسيا الاستراتيجية في ليبيا، وأن تصريح حفتر حول قصف طرابلس يعتمد في الأساس على هذه الطائرات التي قُدرت بـ14 طائرة (ميغ 29 وسوخوي 2) في قاعدة الجفرة.
لكن التقرير ذكر قضية مهمة وهي أنه إذا ما استقرت روسيا في قاعدة على الساحل الليبي، فإنها ستعمل على بناء نظام طويل الأجل؛ لمنع أي وجود جوي لقوى أخرى في المجال الذي سيطرت عليه، ويرى التقرير أن هذه هي الخطوة المنطقية الثانية لروسيا، وهو عين ما فعلته في سوريا. (هذا النظام يسمى A2/AD).
هذا يؤكد أن الخطوات الروسية القادمة خطوات استراتيجية وليست خطوات محدودة لنصرة قوات حفتر أو دعم طرف على حساب الآخر؛ ويكون السيناريو هو إعادة تموضع من أجل البقاء في شمال إفريقيا بإنشاء قاعدة جوية، مُؤمِّنةً نظاماً دفاعياً طويل الأجل يجعلها جزءاً من المعادلة في شمال إفريقيا، ويحقق مصالحها باستمرارها كمصدر وحيد للغاز ومصادر الطاقة لأوروبا، وهذا لن يمنعها من أن تظهر كحمامة سلام تسعى لاستقرار ليبيا الذي أفسده الغرب كما هي السردية الروسية.
موسم الرحلة إلى الشرق
تصوُّر آخر يرى أن الخطوات الروسية تسعى لحماية الشرق الليبي من قوات حكومة الوفاق وطائراته المسيَّرة، وأن الطائرات التي ذكرها تقرير الأفريكوم هي طائرات صُممت في حقبة الاتحاد السوفييتي لمجابهة الطائرات الأمريكية، ومن غير المعقول أن تعود هذه القوات المهزومة بعد هذه التجربة الخاسرة مع قيادة حفتر، لذا فإن روسيا ستكتفي بدعم حفتر من خلال قاعدة الجفرة وبوجود في الشرق الليبي، وهذا ما يحقق مصالحها ويجعل موقفها التفاوضي أقوى، خاصة مع استمرار السيطرة على موانئ النفط في ليبيا.
يمكن تصور هذا السيناريو بأن مراجعة الأحداث بيَّنت لصانع القرار الروسي أن الاعتماد على بنية قوات حفتر ورؤيته للمعركة لن يحقق مصالح روسيا في ليبيا، وأنه يمكن إدارة الصراع من خلال وجود روسي في الشرق الليبي، يمكنه أن يفرض أجندة سياسية لا تعتمد على صراع مباشر مع تركيا أو القوى الغربية، لكنها في الوقت نفسه تسهم في موقف تفاوضي قوي لروسيا.
هل سيكون ذلك لدعم حفتر سياسياً أو لدعم مسار سياسي يقوده عقيلة صالح رئيس مجلس النواب السابق، أو من خلال شخصيات في النظام السابق… كل خيار من هذه الخيارات له ما يبرره، فإن حفتر تدعمه الإمارات، وهي داعم مالي قوي؛ لذا يمكن الاستمرار في دعم حفتر دون أن يملك حق اتخاذ القرارات المهمة والاستراتيجية؛ ودعم عقيلة صالح ربما يعطي شرعية تفتقدها روسيا بليبيا، كما ظهر في تصريحات طرح فيها مبادرته لحل الأزمة الليبية، وتحدَّث عن موقف روسي داعم لهذه المبادرة. أما قوى النظام السابق فإن ذلك يستند إلى العلاقات التاريخية بين نظام القذافي والاتحاد السوفييتي.
أياً ما كان الأمر فإن الشرق الليبي يشكّل منطقة فراغ استراتيجي قد تسعى روسيا للسيطرة عليه؛ ومن ثم البحث عن مفاوضات سياسية قد يكون من بينها الحديث عن تقسيم ليبيا.
استراتيجية الخروج
في هذه المقاربة التي يبدو أن كثيراً من المراقبين الليبيين يميلون إليها، فإن ما يحدث هو عبارة عن استراتيجية خروج لروسيا من الملف الليبي بعد اتفاق تركي حول ليبيا بالخصوص، ودليل ذلك أن هذه القوات كان بالإمكان قصفها بين ترهونة ومطار بني وليد، وسكوت المجلس الرئاسي عن هذه القوات المسلحة والمدعومة بمنظومات دفاع جوي لا يمكن أن تتحرك كل هذه المسافة دون علم قوات حكومة الوفاق وتركيا. هذا سيناريو يرى أن هذه القوات ببساطةٍ مهزومة وتعود لديارها. أما الطائرات التي ذكرها تقرير الأفريكوم، فلا يعدو أن تكون استمراراً لدعم حفتر بطائرات لن تشكل فارقاً في المعركة ولن تعطي حفتر موضعاً استراتيجياً في الغرب الليبي، وإن ما يقال من الولايات المتحدة الأمريكية رغم صحته، فإن فيه شيئاً من المبالغة السياسية للمنافسة الاستراتيجية بين القوتين.
وجهة النظر هذه ترى أن استراتيجية الدفاع هي التي يتبعها حفتر الآن، وأنه من غير الممكن في هذه الظروف أن ينجح في بناء أي استراتيجية للهجوم، وأن العلاقات التركية الروسية أهم لروسيا من الوجود في شمال إفريقيا، فبين البلدين علاقات اقتصادية وجيواستراتيجية تتعلق بملف الطاقة والملف الروسي، لا يمكن خسارتها لمجرد الانتصار لقائد عسكري لم يثبت كفاءته.
هل يوجد تفاهم روسي تركي في ليبيا؟
فيما يبدو، ما تقوم به روسيا هو إعادة تموضع وليست استراتيجية للخروج، فلا شيء يمنع روسيا من البقاء في إحدى القواعد العسكرية الليبية وبناء نظام مراقبة طويل الأجل يمنع القوى الغربية من الوجود في محيطه، ولا مانع من دعمها أياً من الأطراف التي تراها أقرب إليها أيديولوجياً كأنصار النظام السابق، وهذا لن يعني بالضرورة السيناريو الذي وضعته قوات الأفريكوم من قصف طرابلس ولكن يعني أنها ستتولى قيادة الصراع عبر وكيل ليبي يرضى بالخيارات الروسية في ليبيا، وهي بناء نظام يحقق مصالح روسيا في شمال إفريقيا بوجود قواعد عسكرية داعمة لها، فالخطوة القادمة لروسيا هي الحديث عن حوار سياسي يفضي إلى نظام يسمح لها بالتأثير في ليبيا وشمال إفريقيا سياسياً وعسكرياً.
هذا لا يتعارض مع وجود تفاهم روسي تركي، لأنه بهذا الوضع الذي تسعي روسيا إليه لن تدخل في صراع مع تركيا إنما ستحمي مصالحها، ولن تجد أي تعارض بين حربها على طرابلس وقصفها للمدنيين، والحديث عن تفاوض سياسي والبحث عن حل للأزمة الليبية كما تفعل في سوريا.
وحسبما يرى الباحث بمعهد كليندال في لاهاي جلال حرشاوي، فإن انسحاب مرتزقة مجموعة فاغنر -المعروفة بقربها من الكرملين- تم بين الأحد والثلاثاء الماضيين، بـ"تنسيق" بين موسكو وأنقرة.
وتمَّ ترحيل المقاتلين في طائرات مجهولة نحو قاعدة الجُفْرة في وسط البلاد، وفق مصادر عسكرية.
ويؤكد الباحث بالمعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية فولفرام لاخر، نشر طائرات مقاتلة روسية من أجل "منع تقدُّم قوات حكومة الوفاق الوطني خارج حدود (منطقة) طرابلس".
ويشير إلى أن "تعليق ضربات الطائرات المسيَّرة التركية في أثناء انسحاب المرتزقة الروس (…) يوحي بوجود اتفاق روسي تركي"، فكلا البلدين "يسعى إلى تحديد مجالات نفوذ في ليبيا".
ويتابع مستدركاً: "لكن يجب أن نرى ردود فعل قوى خارجية أخرى: الولايات المتحدة، والإمارات، ومصر، وفرنسا" التي دعمت سابقاً أو تدعم حالياً حفتر.
ويرى أن هذه الدول "قد تسعى الى إحباط تفاهم روسي تركي في ليبيا، لأن ذلك سيقود إلى تهميشها ويمنح روسيا وتركيا نفوذاً طويل الأمد" في البلد القريب من أوروبا.
هل ستغير روسيا استراتيجيتها في ليبيا؟
هذا لا يعني كذلك أن قوات فاغنر التي خرجت من طرابلس ستعود إليها؛ بل -فيما يبدو- إن إعادة التموضع هذه يصحبها تغيُّر كامل في الاستراتيجية الروسية من خلال دفع الأطراف الليبية إلى الحوار، والاستمرار في الأساليب كافة بصورة متأنية ومتدرجة عبر زيادة أعداد المقاتلين والمنظومات الجوية، وكذلك دعم القوى السياسية المختلفة سياسياً وإعلامياً، فبعض المعلومات تشير إلى أن قناة "الجماهيرية" التابعة لأنصار القذافي تملك روسيا فيه حصة وتنفق عليها.
ستسعى روسيا لعدم خوض أي صراع مسلح مع تركيا أو قوات الأفريكوم، أي إن الأفريكوم ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية، تسعى لتطوير حدة النزاع مع روسيا؛ لطردها من شمال إفريقيا وإظهارها كقوة "خبيثة" تسعى من أجل تغذية النزاع بالمنطقة، في حين تهدف روسيا إلى الاستمرار فيما يُعرف بالحرب الهجين (وهو التكتيك الذي اتبعته في أثناء حربها بالقرم باستخدام شبكات وقوات تابعة لشركات خاصة، واستمرار للدعم الإعلامي والسياسي والمالي بشكل شبكي دون أن يظهر بشكل رسمي للدولة الروسية)، حتى تنجح في إدارة تفاوض يجعل لها ذراعاً سياسية كما لها قاعدة عسكرية سواء بسواء.