إن انعدام النظام العادل في الأمة حلت محله الفوضى ولو حملت اسم النظام، والفوضى خرق كامل الاتساع لا تحده من جوانبه ولا تحصره السدود، وهي إذا تركزت في بلد ما لا تنتهي إلا بالقضاء عليه وعلى من يعمره من الناس.
علال الفاسي، كتاب "النقد الذاتي"
مما لا شك فيه أن الديمقراطية ليست منجزاً جاهزاً تستورده الشعوب والمجتمعات كما تستورد باقي المنتجات، لكنها حتماً "أفضل الممكنات" كما عبر عن ذلك راشد الغنوشي، لحل معضلة الاستبداد التي أصابت الجسم العربي، هذا الداء يعد من أهم أسباب التخلف والنكوص كما ذهب إلى ذلك الكواكبي في كتابه الشهير "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" الذي يعد بحق أهم وثيقة طبعت التفكير السياسي العربي والإسلامي بصبغة خاصة مطلع القرن العشرين، على غرار وثيقة إتين دي لابويسيه "مقالة في العبودية المختارة"، وستبقى للوثيقتين معاً أهمية وقدرة تفسيرية ما لم يتم التخلص من الاستبداد وتتحقق الديمقراطية والانتقال الديمقراطي، كرهان وبراديغم وجه التفكير السياسي للنخبة الديمقراطية والشعوب، ليس مع الربيع العربي وحسب، وإنما منذ السياقات التي انولد فيها هاجس التحديث السياسي وتوطين الثقافة السياسية المعاصرة، رغبة في التقدم، إلى اللحظة الراهنة التي برزت فيها مقولات الانتقال الديمقراطي وغير ذلك، من المفاهيم التي تساعد في قراءة وتفسير التحولات السياسية الراهنة في تفاعل من المجتمع والنسق السياسي الذي هو في طور التشكل، كما هي عادة المجتمعات التي شهدت حداثة سياسية عقب ثورة أو توافق وطني في أفق التغيير، لذلك فالديمقراطية والانتقال الديمقراطي عملية معقدة، تتدخل في صياغته عدة عناصر وعوامل، قد تحكم عليه بالإخفاق أو النجاح نظراً للوعي السياسي والاستراتيجي الذي يوجه النخبة الفاعلة في صياغة طبيعة المرحلة وإدارة تحدياتها. وهذا يظهر في زمننا الراهن في التجربة التونسية التي تعيش تحت وقع عسر الانتقال الديمقراطي بفعل التحديات التي تتربص بها من الخارج والداخل.
كيف حصن النزوع إلى التوافق الوطني تجربة الانتقال الديمقراطي بتونس من الإخفاق؟ وأي دور للتوافق الوطني في التحديات الحالية؟
1) صيرورة التوافق الوطني في تونس وعناصره الفاعلة
لقد راكمت التجربة التونسية منذ الثورة حالة من الوعي بخصوص التوافق الوطني لصياغة التعاقد السياسي والاجتماعي الجديد، وفي كل لحظات التحديات تلك، التي كانت تخضع في بعض عناصرها للعوامل الإقليمية والدولية الراغبة في إنهاء تجربة الانتقال الديمقراطي، أمكن للقوى الوطنية المختلفة، إبعاد شبح التأثير السلبي للعامل الخارجي، سواء في مرحلة الترويكا أو في المرحلة التي أعقبتها حيث تم التوافق بين الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي لتجاوز الأزمة السياسية التي كانت تعصف بتونس.
شهدت مرحلة الترويكا عدة تقلبات سياسية في سياق الثورات المضادة، وما حدث بتونس من اغتيالات كانت في أهدافها الكبرى تستهدف التوافق الوطني والانتقال الديمقراطي الوليد، وقد كان استهداف التوافق الوطني بغاية إحداث الشرخ وتعميق التناقض بين التيارات الأساسية للمجتمع من جانب، وبين النخب السياسية والمدنية وكذلك بين القوى والمؤسسات، ومثل هذا الوضع كان كفيلا بإنهاء التجربة التونسية لولا توفر عدة عناصر أنهت احتمالات إجهاض التجربة الديمقراطية.
أول تلك العناصر، وعي لفيف من النخبة السياسية بالكسب الاستراتيجي لتغليب الحوار الوطني والتوافق على حسب الصراع والانزواء في أفق الرهانات الأيديولوجية والمصالح الحزبية، وأحيل هنا إلى أحزاب المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي وحركة النهضة، وقد كان التوافق الوطني بين هذه الأطراف يمثل توافقا مجتمعيا عريضا بين ألوان إيديولوجية وسياسية مختلفة، ويمكن إذا أردنا التمثيل له بأنه جسد حقيقة ما أطلق عليه الدكتور محمد عابد الجابري مفهوم "الكتلة التاريخية"، أو عبارة عن اصطفاف وتصالح بين "التيارات الأساسية للمجتمع" كما عند المستشار طارق البشري، وهو اصطفاف كان وسيظل ضرورياً بالنظر لأهميته، إذ إن الكتلة التاريخية بين المكونات الرئيسية للمجتمع، تكون وحدتها قائمة على أساس برنامج وطني وليس حزبي، كما أنه كان ذات بعد وخلفية سياسية صرفة، وقد كان من نتائج ذلك في حينه التخفيف من حدة التوتر، وإدماج المجتمع المدني في رعاية الحوار بين 'الترويكا" والمعارضة ممثلة في "جبهة الإنقاذ".
كان من نتائج الحوار الذي مر بتقلبات واختلافات عدة، تخلي حركة النهضة عن الحكومة، وإطلاق صيرورة جديدة أسفرت عن أهم منجز لمرحلة الترويكا، وأقصد الدستور، وأهميته تنبع من كونه أحد ضمانات الاستقرار السياسي والمجتمعي، لذلك فإن بعض الحديث في السياق التونسي عن تغيير النظام السياسي وإن كان تعبيراً عن اختلاف سياسي عادي، فهو في أحد أوجهه يخدم الأطراف الإقليمية التي تسعى لإرباك التجربة الديمقراطية بتونس، كما أنها تعمق الخلاف بين شرعيتين سياسيتين، مع الأهمية للبرلمان، حيث يميل النظام السياسي التونسي إلى كونه نظاماً برلمانياً.
ثاني تلك العناصر، وقد سبقت الإشارة إليه، هو المجتمع المدني وما يمكن أن يضطلع به في التقريب بين الفاعلين والقوى السياسية، إذ إنه رغم عدم اشتغاله المباشر بالسياسة، فهو يهتم بطريقة غير مباشرة، بل إن وظيفته مركزية بالنظر إلى موقعه الوسط بين الدولة والمجتمع، فهو الذي يحمي المجتمع من تغول الدولة، وفي لحظات التحول والانتقال يعد دوره رئيسياً لصالح التقدم والديمقراطية ودولة الحق والقانون، نظراً لأنه كمفهوم يعد جزءاً من المنظومة السياسية الحديثة والمعاصرة. وقد كان له في التجربة التونسية، ذلك الدور الرئيسي في رعاية الحوار الذي جنب تونس مخاطر كانت ستعصف بها في سياق الثورات المضادة. وعكس هذا المثال الفاعل في سياق رعاية الديمقراطية، فإنه ينبغي الحذر من كون المجتمع المدني قد يتحول أحياناً إلى أداة إعطاب للديمقراطية، حينما يتجاوز أدواره من جهة إلى جهة الممارسة السياسية المباشرة، أو حين ينخرط في أجندات إقليمية أو دولية تضر بالمصالح الوطنية، لذلك ستظل أعين الثورة المضادة في كل التجارب على تعميق الانقسام المجتمعي، وإثارة النزاع داخل النسيج المدني والسياسي معاً حول قضايا تضر بالتوافق الوطني على أرضية الديمقراطية والمواطنة، وفي سياق الربيع العربي توجد تجارب عديدة متنوعة في أكثر من بلد تم نجحت فيه الثورة المضادة برعاية القوى الداعمة لها إقليمياً.
تجلت أهمية الوعي في إدارة الاختلاف السياسي بالحوار وليس التنافي، في العلاقة بين الباجي قايد السبسي والغنوشي في المرحلة التي تلت الترويكا، وبصيغة أخرى بين بعض بقايا النظام القديم وحركة النهضة التي تعد أحد تعبيرات الاسلام الديمقراطي التي تجسد روح الثورة حينها، برز الاختلاف والصراع في لحظات متنوعة، كما برزت إمكانيات التدخل الإقليمي والخارجي في السياق الداخلي لإثارة النزاع وإنهاء التجربة، لكن أرضية التوافق وصيانة الانتقال الديمقراطي، كما يمكن أن تتم من خلال تجارب متعددة، تقتضي أحياناً المصالحة والتوافق بين قوى النظام القديم والنظام الجديد، ساهم في ذلك البعد الوطني الذي جسده الطرفان الرئيسيان في المشهد حينها، وأقصد الباجي قايد السبسي من موقع كرئيس والغنوشي أو النهضة، وقد كانت عنواناً بارزاً لتنسيق بأفق وطني يبقي الخلاف في دوائر معينة، بما يعيق من توظيفه من أطراف إقليمية معادية للثورة والربيع العربي، وقد تجلى ذلك بوضوح، في عدد من تصريحات السبسي حينها في رفض التدخل في الشأن الداخلي التونسي.
2) في الحاجة إلى عقل سياسي بارد لصيانة التجربة الديمقراطية
من خلال تتبع صيرورة التحولات السياسية المذكورة آنفاً في تونس، إلى حدود تشكيل الحكومة الحالية وما رافقها من خلافات مبطنة بين الفرقاء السياسيين، فيمكننا ملاحظة، أنه كان لزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في اللحظات الحرجة لمسار الانتقال الديمقراطي بتونس، فعالية كبيرة في حلحلة الأوضاع وإدارة التوافقات لتجنيب التجربة الوليدة مأساة الانهيار. وينبغي أن نسجل هنا أنه في لحظات الاضطراب حيث تتعدد العناصر المتدخلة والعوامل المؤثرة، بين ما هو داخلي وما هو خارجي، تكون الحاجة ماسّة لعقل سياسي بارد بعيد عن الانفعالات، يمارس السياسة بواقعية وعقلانية في التفكير، وينظر باستشراف لمدى استراتيجي بعيد وليس أمام ناظريه أو في انسياق لعواطفه. ولو كان مثل هذا النمط من التفكير والممارسة السياسية منتشراً في الدول الرئيسية التي جرى بها الربيع العربي، لما حدثت الكثير من الآلام التي جعلت التكلفة باهضة.
هذا التفكير العقلاني البارد في قضايا السياسة، يستصحبه معه راشد الغنوشي منذ لحظات مبكرة في رسم معالج تجربة الإسلام السياسي بتونس، حيث شغلت تفكيره إشكالية الحرية والديمقراطية والمواطنة، وليس الشريعة والدين والهوية كما أسئلة الإسلاميين حينها، إذ يعتبر الغنوشي أن "قضية الحرية السياسية والفكرية أولوية الأولويات، ومنها ينطلق البناء الجديد" في نظره (ينظر كتابه الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ص: 51).
كما أن هذه القدرة على صياغة التوافقات والتأرجح المزدوج بين الواقعية والحفاظ شعارات روح الثورة في سياق لحظات حرجة، تتعلق بإعادة بناء المؤسسات بعد الثورة، وفي بلد له مطالب اجتماعية متنوعة، غير معهود لدى تيارات الإسلام الديمقراطي في العالم العربي، وهو ما يفسر في الجانب الخفي الريبة الدائمة لقوى الثورة المضادة إقليميا لهذا النمط من التفكير والممارسة السياسية، لأنه قد يقدم تنازلات آنية وهي ضرورية، لكن على المستوى الاستراتيجي، فإن ربحها يعود على الانتقال الديمقراطي نفسه. بل إن هذه المرونة والوعي الاستراتيجي يكون له تأثير على المستوى الإقليمي في شل حركة الثورة المضادة، وهذا يعود بناء إلى السياق التاريخي للعالم العربي والإسلامي، حيث لعبت الرموز الكبيرة فعالية في الاستنهاض من جهة ودعوة إلى التحديث، أو في جانب آخر في مقاومة الاستعمار ، وهو وعي كان يتجاوز البعد القطري.
على نقيض هذا الجانب من التفكير بعقلانية ومزاوجة بين الانتصار لروح الثورة والواقعية لإنجاح تجربة الانتقال الديمقراطي، نجد قيس سعيد في بعض سلوكه السياسي كرئيس دولة، أشبه بالفوضويين، وأبعد ما يكون عن التفكير العقلاني في إشكاليات السلطة، والعمل على تمتين التوافق الوطني، وتجاوز الخلاف الضيق في اللحظات الحرجة والعمل لصالح شخصه السياسي إلى الاهتمام بالأفق الوطني الذي قد تتهدده الثورة المضادة، وندلل على ذلك بواقعة توزيع القفة على المحتاجين وظهوره في الإعلام يحملها بنفسه، في استعارة لمثال عمر ابن الخطاب وهو يتفقد أحوال الرعية، وقد أتى على ذكر ذلك في تصريحه للإعلام. مثل هذا السلوك والخروج الإعلامي يمكن أن يفهم أنه بروبغندا إعلامية يسوق بها كل الساسة صورتهم للمجتمع لاستمالته ودغدغة مشاعره، وحتى وان كانت صادقة، فإنها لا تنتسب إلى الثقافة السياسية المعاصرة، إذ الحقل الدلالي لمفهوم الرعية يختلف عن الحقل الدلالي لمفهوم المواطنة، كما أن الزمن الراهن هو بحاجة إلى دولة ونظم تتحقق فيها المواطنة وترعى العدالة الاجتماعية في السياسات الاقتصادية وغيرها، فالشرعية السياسية التي يمتلكها ينبغي أن تكون داعما في بناء الدولة التي تتحقق معها المواطنة، وتصان فيها السيادة تجنبا لاختراق القوى المناهضة للثورة إقليميا.
إن طبيعة البناء المؤسساتي في السياق التونسي، وكذلك من حيث الطيف المجتمعي، تقتضي الإبقاء على الوعي المجتمعي يقظا بطبيعة مراحل الانتقال الديمقراطي ومتطلباتها من جهة، ثم دوام التوافق في نسق السلطة كما كان سارياً في المرحلتين السابقتين وتجنب الانقسام كما، لأنه قد يضر بالتجربة الديمقراطية برمتها، ومن ثم فإن أفكار مراجعة النظام السياسي في السياق التونسي الراهن، وحالة من الضبابية في موقف الرئيس التونسي فيما يجري بليبيا، يمكن أن يحدث نوعا من التباين -يتجه للاختلاف الحاد- بينه وبين راشد الغنوشي باعتباره رهانه في توظيفه زعامته التي اكتسبها في ممارسة ديبلوماسية موازية، فالاختلاف الحاد لن سلبياً على تونس وحسب، وإنما على كل شمال إفريقيا وضفة المتوسط، لذا ينبغي الوعي بأن انحسار قوات الجنرال حفتر، هو في حقيقته ليس مجرد انهزام لخيار الثورة المضادة إقليمياً، وإنما تجنيب لمنطقة شمال إفريقيا لهيب النار، وما يلحقها من اضطراب وانتشار الحركات المقاتلة العابرة للحدود في صحراء مترامية الأطراف، ابتداءً من ليبيا مرورا بتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، وهو ما يعني أن التوافق الوطني في السياق التونسي تستلزمه ظروف متنوعة، كما أن غيابه إضرار بالتجربة الديمقراطية، والسماح للقوى المعادية للديمقراطية بنشر الاضطراب، لأن القضايا متداخلة فيما بينها، أي إن سيطرة الجنرال في ليبيا، ستعني تكريس للاستبداد العسكري في المنطقة، وتهديد للاستقرار الاجتماعي، وزرع لبذور الاحتراب والانقسام المجتمعي.
ختاماً: لقد كانت التجربة المصرية جلية في أن الإخفاق في إدارة الحوار الوطني وتدبير الاختلاف، من الأسباب التي جعلت ثورة كبرى بحجم الثورة المصرية تقع أسيرة إرادة "جمهورية الضباط" وأنظمة رجعية في المنطقة، اتخذت لها من معاداة الديمقراطية والحرية والاستقلال الوطني عقيدة سياسية تحكم علاقاتها بالدول والفعاليات على المستوى الإقليمي والدولي، ولو أن تلك الدول أنفقت الثروات التي أهدرتها في سبيل الثورة المضادة في كل من مصر واليمن وليبيا وغيرهم، لشهدنا نهضة عربية بدل خراب العمران وتهجير الإنسان، ولما كان الاحتراب مستمراً في أكثر من منطقة، ومع الاحتراب تورث الأحقاد والنزاعات والتشققات النسيج الاجتماعي، الذي لا يوجد من مدخل لإدارة التنوع داخله في أفق يخدم التقدم والسلم المجتمعي من غير الارتكاز على المواطنة والديمقراطية. والديمقراطية ليست مجرد نظريات، إنما هي ممارسة وثقافة في العيش المشترك وتدبير الاختلاف وصيانة الإرادة العامة، وكل ذلك في السياق العربي تبقى تونس مثاله الأبرز نظراً لوعي نخبته المتجاوز لعقلية القبيلة وروح الاستعباد. إذ إن الثورة خلقت حياة وروحاً جديدة ليس في تونس وحسب، وإنما منها إلى كل شعوب المنطقة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.