ازدادت خطط إنتاج الغاز في شرق المتوسط تعقيداً وصعوبة في التنفيذ بعد الانهيار الكبير في أسعار النفط والغاز جراء أزمة كورونا.
وبالإضافة إلى التحركات التركية السياسية والعسكرية، فإن أسعار الطاقة الجديدة في عالم ما بعد كورونا أدت لتحسين موقف تركيا، في شرق المتوسط، حسبما ورد في تقرير لمجلة National Interest الأمريكية.
أحد أهداف تدخل تركيا في الأزمة الليبية ترسيم الحدود البحرية
واحدٌ من العوامل التي تشكل السياسة التركية تجاه ليبيا هو رغبتها في إعادة ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط، التي أرستها اتفاقيات ثنائية بين اليونان من جهة ومصر وقبرص من جهة.
وقد وقعت تركيا من أجل تحقيق هذا اتفاقية في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2019، مع الحكومة الليبية المدعومة من الأمم المتحدة بقيادة رئيس الوزراء فايز السراج، ترسم الحدود بين الطرفين في البحر المتوسط.
وقد أرسلت تركيا -دعماً للسراج وهو حليف أنقرة الوحيد في شرق المتوسط، بخلاف جمهورية شمال قبرص التركية التي تعترف بها تركيا وحدها- قواتٍ تُساعد حكومة السراج في معركتها ضد خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي كما يسمي نفسه.
ويأمل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أن الانخراط العسكري لأنقرة في البلد الشمال أفريقي سيغير الوضع القائم في شرق المتوسط، لكن تركيا بدلاً من إرسال قواتها إلى ليبيا، فالأجدر أن ترسل دبلوماسييها إلى الدول الساحلية مثل مصر وإسرائيل ولبنان.
نزاع على التعريفات بسبب التعقيدات الجغرافية
منذ اكتشاف احتياطي ضخم من الغاز الطبيعي في شرق المتوسط في 2009، انهمكت الدول الساحلية في نزاعٍ مرير على ترسيم الحدود البحرية. وفي قلب النزاع يكمن غياب تعريف متفق عليه للمناطق الاقتصادية الخالصة لكلٍ منها، وهي المساحات البحرية التي تُطالب الدول بحقوقٍ خالصة لها في استغلال الموارد الطبيعية فيها، مثل الغاز الطبيعي.
وفقاً لليونان، تسمح اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لأثينا بترسيم حدودها البحرية بدءاً من جزرها. لكن تركيا لم توقع على اتفاقية قانون البحار، وتجادل من جانبها بأن المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل بلدٍ ينبغي أن تبدأ من البر الرئيسي، وليس من الجزر. وما أجج النزاع على الحدود البحرية مسألة قبرص.
فجزيرة قبرص منقسمة بين القبارصة اليونانيين في الجنوب والأتراك في الشمال منذ انقلاب يوناني وتدخل عسكري تركي في 1974. وعلقت اليونان وتركيا في نزاعٍ على قبرص منذ ذلك الحين، وفضلت الجهود الهادفة إلى حل الأزمة مراراً وتكراراً. نتيجة لذلك، لطالما قاومت الدول الساحلية كل المساعي إلى ترسيم حدودٍ دقيقة لمناطقها الاقتصادية الخالصة، غير أن اكتشاف احتياطات الغاز غير موقفها. فقد وقعت اليونان عدة اتفاقيات ثنائية رسمت الحدود القصوى بين اليونان وقبرص، وتركت قطاعاً ضيقاً من المياه لتركيا. أما الاتفاقية التي وقعتها تركيا مع ليبيا فقد وضعت حدوداً بحرية على مسافة 18.6 ميل بحري، ومنطقة خالصة لكلٍ منها شمال تلك الحدود وجنوبها، تتقاطعان مع المنطقة التي تعتبرها اليونان جزءاً من الجرف القاري.
خبراء مستقلون: تركيا من حقها منطقة بحرية أكبر
تمتلك اليونان آلاف الجزر، وبمنحها سلطة بحرية واسعة، إلى جانب قبرص، فإن الاتفاقيات الثنائية بينهما ستُحاصر تُركيا فعلياً. وتركيا لديها ساحلٌ ممتد، ويؤكد خبراء مستقلون أن تركيا يحق لها تعيين منطقة بحرية أكبر، حسب المجلة الأمريكية.
وتسمح اتفاقية قانون البحار للبلاد بتوسيع مياهها الإقليمية إلى اثني عشر ميلاً بحرياً بحد أقصى، في حين يمكن أن تمتد المنطقة الاقتصادية الخالصة إلى إجمالي مئتي ميل.
لكن المشكلة أن دول ساحل المتوسط قريبة من بعضها لدرجة تجعل هذه المناطق تتداخل مع بعضها، وهذه المشكلة تتضح بالأخص في حالة تركيا واليونان وقبرص. لهذا السبب ينبغي تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة في البحر المتوسط عبر اتفاقيات ثنائية بين الدول الساحلية.
لكن اتفاقية تركيا مع السراج لن تمنح أنقرة على الأرجح سبيلاً لتغيير الأمر الواقع. فالأزمة أن حكومة السراج رغم كونها معترفاً بها من الأمم المتحدة تخوض معركة مستمرة في ليبيا، وما زال مصير حكومة طرابلس ضبابياً حتى الآن.
تركيا تقدم لمصر ولبنان وإسرائيل عرضاً أفضل
التحرك الأكثر فعالية سيكون أن تمد تركيا يدها للدول الساحلية ومنها مصر ولبنان وإسرائيل، وتعقد معها اتفاقيات مشابهة. وقد قالت أنقرة إنها كانت مستعدة لذلك، وأنها ستعرض على هذه الدول شروطاً أفضل من شروط اتفاقياتها مع اليونان.
لكن علاقات تركيا بالدول الثلاث تظل متوترة. فقد توترت العلاقات المصرية التركية منذ إطاحة انقلاب 2013 بحكومة محمد مرسي المنتخبة ديمقراطياً، التي كانت حليفة لأردوغان، وجاءت بعبدالفتاح السيسي إلى السلطة.
وقد انتقدت تركيا الانقلاب بشدة وطالبت بإطلاق سراح مرسي. وأعلنت تركيا تخفيض العلاقات مع مصر وأعلنت السفير المصري شخصاً غير مرغوب فيه.
منذ ذلك الحين، صارت تركيا ملاذاً لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين المنفيين من مصر. وأدت محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 إلى إنهاء الجهود القليلة المبذولة لتطبيع العلاقات، ويظل أفق استعادة العلاقات الطبيعية بينهما ضئيلاً. وسيمثل تطبيع العلاقات مع النظام العسكري في مصر بالنسبة لأردوغان تراجعاً في موقفه المناهض للانقلابات العسكرية.
وعلاقة تركيا بلبنان متدهورة أيضاً، فقد تبادل البلدان تصريحاتٍ غاضبة بعد أن أشار الرئيس اللبناني ميشيل عون إلى "إرهاب الدولة الذي مارسه العثمانيون على اللبنانيين" في حديثٍ له بمناسبة مرور مئة سنة على تأسيس دولة لبنان الكبير. وبعد انتقادات تركية لتصريحات عون، استدعت لبنان السفير التركي. وتصاعدت حدة التوترات بعد انتقاد الحكومة اللبنانية هجوم تركيا على قوات سوريا الديمقراطية العام الماضي، إذ أشار إليه اللبنانيون في بيانٍ رسمي بأنه "عدوان على دولة عربية شقيقة واحتلال للأراضي السورية وتعريض شعبها للقتل والتهجير".
وهناك العديد من الأزمات بين تركيا وإسرائيل كذلك، فقد ظلت العلاقات متوترة منذ غارة إسرائيلية قتلت ناشطين تركيين على متن أسطول يسعى إلى تقديم المساعدات إلى غزة في 2010. وقد عطلت تركيا كل الاتفاقيات العسكرية مع إسرائيل وطردت سفيرها من أنقرة بعد رفض إسرائيل الاعتذار عن الواقعة. ولعبت اعتبارات الطاقة دوراً في إعادة البلدين النظر في علاقاتهما الثنائية. ففي 2016، أعلنت تركيا وإسرائيل أنهما قد توصلتا إلى اتفاقٍ لتطبيع العلاقات، لكن محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، وفشل الجهود الساعية إلى حل مسألة قبرص، إضافة إلى رد فعل تركيا القوي تجاه قرار الولايات المتحدة نقل سفارتها في إسرائيل إلى القدس حال دون جهود التطبيع.
لكن الأشهر الماضية شهدت علامات إيجابية على تحسن الأوضاع. فقد قررت إسرائيل عدم توقيع بيان صادر عن فرنسا واليونان وقبرص والإمارات ومصر يدين تحركات تركيا في شرق المتوسط. وكذلك نشر الحساب الرسمي لإسرائيل تغريدة تمدح العلاقات الدبلوماسية مع تركيا.
وقد رأى المحللون هذه التحركات علامة على استعداد البلدين للتعاون في ما يتعلق بمسألة الطاقة في شرق المتوسط.
أما علاقات تركيا بسوريا، البلد الساحلي المتبقي في شرق المتوسط، فهي متوترة أكثر بكثير بسبب دعم تركيا للثوار السوريين وتدخلها العسكري في الحرب التي نشبت في البلاد.
الآن خطط إنتاج الغاز في شرق المتوسط لا تستطيع تجنب تركيا
بالنسبة لجميع الأطراف في شرق المتوسط، يمثل الموقف الحالي مأزقاً يضر بها جميعاً. فالصراع بين تكتل تركيا والتكتل المناهض لها يؤدي مصالح الطاقة بالنسبة للجميع، ما يجعل الاستثمار في المنطقة أعلى تكلفة على شركات الطاقة.
وبدون تنازلات من جميع الأطراف، سيخسر الجميع. وبعد اكتشاف احتياطيات الغاز قبالة سواحل قبرص في 2019، وقعت إسرائيل واليونان وقبرص اتفاقية لبناء خط أنابيب يُعرف باسم EastMed (شرق المتوسط)، من أجل نقل الغاز الطبيعي من شرق المتوسط إلى أوروبا عبر اليونان، متخطين تركيا.
والمشروع الذي لم يكن مجدياً اقتصادياً منذ البداية، انخفضت جدواه أكثر في السياق الحالي نظراً لارتفاع تكلفة التشييد وتراجع أسعار الطاقة.
والخيار الأفضل هو إنشاء خط أنابيب يمر عبر تركيا، حسب المجلة الأمريكية.
لكن مصدراً دبلوماسياً إسرائيلياً فضل عدم ذكر اسمه قال إن "خطاب تركيا تجاه إسرائيل ودعم تركيا لحماس" يظلان عقبتين في وجه تطبيع العلاقات.
صحيحٌ أن الأزمات السياسية بين البلدان تعيق التعاون الاقتصادي في كثيرٍ من الأحيان، لكن حين تقع السياسة في مأزق، فربما يكون الاقتصاد هو السبيل الوحيد. وقد صار شرق المتوسط ساحة مأزقٍ يضر بجميع الأطراف، لذا ربما حان الوقت لتجربة شيءٍ جديد.