لم يبقَ في المنطقة الغربية بليبيا سوى مدينة ترهونة، كقوة رئيسية خارج سيطرة الحكومة الشرعية، لكنها أصبحت مطوّقة كالهلال، بعد السيطرة على عدة مناطق محيطة بها.
وبينما ظنَّ الكثيرون أن هجوم فجر الجمعة سيسعى لاقتلاع ترهونة (90 كلم جنوب شرق طرابلس) كما فعل مع قاعدة الوطية الجوية (140 كلم جنوب غرب طرابلس)، بعد تدمير 3 منظومات للدفاع الجوي بها (ترهونة)، ومنظومة رابعة بمنطقة سوق الأحد (شمال غرب ترهونة)، إلا أن الهجوم الرئيسي استهدف محاور جنوبي العاصمة طرابلس.
وصباح الجمعة، هاجمت عدة وحدات تابعة للقوات الحكومية الحدود الشمالية لترهونة، عبر محوري مدينتي القرة بوللي (50 كلم شرق طرابلس) ومدينة مسلاتة (100 كلم شرق طرابلس)، لكن تبيّن بعد ساعات قليلة من بدء الهجوم أن الهدف كان محاور القتال جنوبي طرابلس، وأن الهجوم على ترهونة لم يكن سوى طُعمٍ.
كسر رأس حربة حفتر في طرابلس
ففي نهاية 2019، توغّلت ميليشيات حفتر في مناطق حسّاسة وذات كثافة سكانية عالية جنوبي طرابلس، وسيطرت على معظم أحياء منطقة صلاح الدين، وعلى معسكراتها الرئيسية، ولم يعُد يفصلها عن قلعة "السراي الحمراء" التاريخية، بساحة الشهداء، وسط العاصمة، سوى بضعة كيلومترات.
أما المحور الأخطر فتمثّل في مشروع الهضبة، الذي سيطرت عليه ميليشيات حفتر، وتقدّمت منه إلى أطراف حي أبوسليم، أكبر حي شعبي في طرابلس، وذلك بدعم من مرتزقة "فاغنر" الروسية، الذين رجَّحوا الكفة حينها لصالح حفتر، لكن الدعم التركي للحكومة الشرعية أوقف هذا الزحف.
وبعد 5 أشهر من القتال، تمكّنت القوات الحكومية، في هجوم شنته صباح الجمعة، من طرد ميليشيات حفتر من منطقة صلاح الدين، وسيطرت على معسكر التكبالي وكلية ضباط الشرطة، ومقر البحث الجنائي، بالإضافة إلى مصلحة الجوازات، والتقدم نحو معسكر اليرموك (محور اليرموك)، وتحرير أجزاء واسعة من محور مشروع الهضبة.
كما تقدم الجيش الحكومي في محاور أخرى جنوبي العاصمة، على غرار عين زارة، وسيطر على عدة أحياء بهذا المحور، كما ذكر ناشطون إعلاميون موالون للجيش الحكومي أنه تمت السيطرة على أجزاء واسعة من محوري الرملة والكازيرما، المؤديين إلى المطار القديم الخارج عن الخدمة منذ 2014 (25 كلم جنوبي طرابلس)، بينما شهد محور الطويشة قتالاً ضارياً.
ما سر هزيمة حفتر في صلاح الدين والمشروع؟
سبق طرد ميليشيات حفتر من محوري صلاح الدين والمشروع، ومن عدة أحياء أخرى جنوبي العاصمة، إعلان المتحدث باسمهم أحمد المسماري، عن إعادة تموضع عناصرهم وسحبهم ما بين 2 إلى 3 كلم بمناسبة عيد الفطر، على حد زعمه، وإن كانت القوات الحكومية دفعتهم كيلومترات أخرى إلى الخلف، حسب شهادات ناشطين إعلاميين.
لكن ورغم أن المكتب الإعلامي لعملية بركان الغضب، التابع للقوات الحكومية، أعلن فجر الجمعة "انسحاباً تاماً لعصابات المجرم حفتر من محاور جنوب طرابلس، وهروبهم باتجاه (منطقة) سوق الخميس امسيحل (50 كلم جنوب طرابلس)"، فإن هذا الانسحاب لم يكن شاملاً، بدليل وقوع اشتباكات عنيفة على خطوط المواجهة، صباح الجمعة.
وهذه المفارقة واجهت القوات الحكومية في عدة مناطق تسيطر عليها ميليشيات حفتر، مثل مدن الأصابعة ومزدة والعربان (غرب)، التي أعلن أعيانها أو مجالسها البلدية انضمامهم للحكومة الشرعية، في حين يرفض مسلحون بداخلها الاستسلام أو التسليم.
ويرجع ذلك إلى بداية تفكُّك التحالفات التي تجمع هذا الهجين من المسلحين، فميليشيا حفتر القادمة من الشرق استجابت نسبياً لقرار الانسحاب الجزئي، بينما الميليشيات التابعة لنظام معمر القذافي البائد ترفض الانسحاب، وتتمسك بمواقعها على غرار اللواء التاسع ترهونة، وهو نفس ما ذهبت إليه ميليشيا المدخلية، التي تعارض فكرة الانسحاب، وتحرّض أنصارها على مواصلة قتال الحكومة الشرعية.
كما تحدث عدد من الناشطين الإعلاميين عن انسحاب مرتزقة فاغنر من الجبهات الأمامية للقتال، وإن تحدثت وسائل إعلام محلية عن انتشال القوات الحكومية، مساء الجمعة، لجثة أحد مرتزقة فاغنر في أحد محاور جنوبي طرابلس.
حيل "داعشية"
ونظراً لقناعتها بهزيمتها الحتمية لجأت ميليشيات حفتر إلى تفخيخ المباني والشوارع بالألغام، لتأخير زحف القوات الحكومية، حتى لا تسقط كامل محاور طرابلس في يوم واحد، كما فعلت في 13 أبريل/نيسان الماضي، عندما سقطت 8 مناطق رئيسية في يدها خلال ساعات، وكذلك قاعدة الوطية في 18 مايو/أيار الجاري، وبلدتا تيجي وبدر في 19 مايو/أيار، ومدينة الأصابعة في 20 مايو/أيار.
وتفخيخ المباني والأحياء أسلوبٌ استعمله تنظيم "داعش" الإرهابي في مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس)، في 2016، وتسبب في تأخير السيطرة الكاملة على المدينة من بضعة أسابيع إلى 7 أشهر.
ورغم تولي فرق الهندسة العسكرية تفكيك الألغام في طرابلس، فإن ذلك قد يؤخر عودة النازحين إلى أحيائهم المحرَّرة إلى ما بعد عيد الفطر، المصادف ليوم الأحد.
تضييق الخناق على ترهونة
تعتبر معركة ترهونة شديدة الترابط بمعركة طرابلس، وقد لا يتم تحرير الأولى إلا بتحرير الثانية والعكس صحيح، وذلك أن معظم عناصر اللواء التاسع ترهونة "الإرهابي" متمركزون في محاور متقدمة بطرابلس.
لذلك أوهمت القوات الحكومية ميليشيات اللواء التاسع أن هدفها ضرب ترهونة، من أجل دفعها لسحب جزء من عناصرهم إلى مسقط رأسهم، وأتاح ذلك تركيز الهجوم على المحاور الأمامية في طرابلس.
لكن مع ذلك تبقى ترهونة العقبة الأكبر أمام تحرير كامل الغرب الليبي، ومهدت القوات الحكومية لهذه العملية من خلال استهداف منظومات الدفاع الجوية بالمدينة ومحيطها (4) وقصف أهداف حيوية داخل المدينة، وتضييق الخناق عليها من خلال محاولة قطع خط إمدادها الرئيسي، لدفع مسلحيها للاستسلام أو الانسحاب منها، مثلما فعلت في قاعدة الوطية الجوية (140 كلم جنوب غرب طرابلس).
فبعد سلسلة هزائم لميليشيات حفتر في قاعدة الوطية الجوية، وفي بلدتي تيجي وبدر (قبائل الصيعان) بالجبل الغربي، سيطر الجيش الليبي على مدينة الأصابعة (120 كلم جنوب طرابلس) ثم مدينة مزدة الاستراتيجية (180 كلم جنوب طرابلس) في نفس اليوم.
وتقع مزدة بالقرب من الطريق الاستراتيجي لإمداد ميليشيات حفتر في ترهونة، الذي يبدأ من قاعدة الجفرة الجوية (650 كلم جنوب شرق طرابلس)، والتي تمثل مركز تحشيد للرجال والأسلحة والمؤن، ومنه إلى مدينة الشويرف (400 كلم جنوب شرق طرابلس).
وبسيطرة القوات الحكومية على مزدة تكون اقتربت من قطع شريان تموين ترهونة بالوقود والأسلحة والذخائر، ولم يبقَ لها سوى مفترق طرق الشميخ القريب من مزدة، وهو ما سيُدخل ترهونة في حرب استنزاف، خاصة أنها لا تملك خطوط إمداد رئيسية بديلة إلا إذا استثنيا الطرق الترابية الوعرة أو مهبط المشروع الزراعي بترهونة، والذي سبق أن أسقطت القوات الحكومية طائرة شحن عند هبوطها به.
لكن صفحات موالية لميليشيات حفتر تزعم أنهم استعادوا السيطرة على مزدة، بالنظر لأهميتها الحيوية بالنسبة لترهونة.
فترهونة، مفتاح تحرير طرابلس وكامل المنطقة الغربية، خاصة مع انهيار معنويات ميليشيات حفتر وبداية انسحاب بعضها عائدة نحو الشرق، ومع توالي هزائمها ازداد التباين بين فصائلها والاتهامات المتبادلة بالخيانة، ومع ازدياد عزلة المدينة بالمنطقة الغربية من المتوقع أن تنضم في النهاية إلى الحكومة الشرعية.