ما إن يحل شهر مايو/أيار كل عام حتى أجد نفسي مدفوعاً بشكل ما، إلى معاودة بعض قراءاتي عن القضية الفلسطينية، هذا كتاب مهم، كان الكتاب الذهبي الصادر عن دار "روز اليوسف" المصرية في عام 2001، ويحوي الكتاب المترجم عن الإنجليزية مجموعة من شهادات المؤرخين ومعظمهم إسرائيليون، من المؤرخين الجدد الذين وجدوا أن الرواية التي نشرتها إسرائيل عن قيامها غير صحيحة، في ضوء ما ظهر من وثائق وزارتي الدفاع والخارجية الإسرائيليتين ووثائق أخرى بعد مرور 30 عاماً على الحرب. كما نشرته مكتبة العبيكان بمقدمة لإدوارد سعيد تحت عنوان "الحرب من أجل فلسطين".
آفي شلايم، المؤرخ الإسرائيلي وأستاذ العلاقات الدولية بجامعة أوكسفورد، تتناول موضوعاً مهماً هو:
هل صحيحٌ أن القوات العربية كانت متفوقة على القوات الصهيونية في حرب 1948؟
أشاعت إسرائيل أنها واجهت جيشاً عربياً قوياً جيد التسليح؛ ومن ثم فإن انتصار إسرائيل عليه كان معجزة، وإن الانتصار الإسرائيلي كان نتيجة عزيمة وبطولة المقاتلين اليهود وليس نتيجة تشتُّت وتفرُّق صفوف الجيش العربي، والحقيقة غير ذلك، فالجيش العربي مجتمعاً كان من حيث العدد أقل كثيراً من الجيش الإسرائيلي، ففي منتصف مايو/أيار 1948، كان عدد القوات العربية الكلي، سواء النظامية أو غير النظامية، أقل من 25 ألف فرد، في حين كان عدد القوات الإسرائيلية يزيد على 35 ألفاً، وخلال شهرين زاد عدد القوات النظامية في جيش الدفاع الإسرائيلي الى 65 ألفاً، وفي شهر ديسمبر/كانون الأول كان الجيش الإسرائيلي قد وصَل تعداده إلى 97 ألفاً، في حين تقلَّص عدد أفراد الجيوش العربية؛ ومن ثم فإن انتصار الجيش الإسرائيلي لم يكن معجزة وإنما كان انعكاساً طبيعياً للتوازن العسكري علي المسرح الفلسطيني.
في الحقيقة، أرسلت الدول العربية قوات رمزية إلى فلسطين واحتفظت بالجانب الأعظم من قواتها في بلادها، وكانت هذه القوات معوقة بسبب خطوط الاتصالات البالغة الطول، وعدم وجود معلومات يُعتمد عليها عن عدوها، وساد سوء التنسيق بينها.
وخذ مثالاً على ذلك، فوزي القاوقجي الذي اختارته الجامعة العربية قائداً لقوات المتطوعين العرب، كانت كل مؤهلاته هي عداوته الشديدة لمفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، وقد أدرك يوشع بالمون، أحد أبرز ضباط مخابرات الهاجاناه، هذه العداوة العميقة بين الرجلين، وقام بالمون بتسريب وثائق ألمانية أكدت للقاوقجي أن اعتقاله خلال الحرب العالمية الثانية على أيدي الألمان كان بتحريض من المفتي، وزاد هذا من تأجيج العداوة بين الرجلين، وبتوجيه من بن غوريون اجتمع بالمون مع القاوقجي؛ ليقنعه بأخذ موقف حياد في حالة قيام حرب بين اليهود وقوات المفتي، وذكر بالمون للقاوقجي أن الحرب يجب ألا تنتهي لصالح المفتي، وعندما تطرق الأمر إلى قوات عبدالقادر الحسيني وحسن سلامة انفجر القاوقجي قائلاً إنه يأمل أن يلقِّنهما اليهود درساً قاسياً، وتعهد بعدم تقديم أي دعم لهما، وهنا طالب بالمون، القاوقجي بالتعهد بعدم المواجهة مع الهاجاناه، وأن يرتبا معاً لإجراء مباحثات بعد رحيل البريطانيين، هنا قال القاوقجي إنه يوافق على ذلك، لكن بعد أن يحرز نصراً عسكرياً؛ من أجل تقديم أوراق اعتماده… وتوقفت المباحثات هنا. وسجلت الأحداث نجاح بالمون في تحييد الجيش العربي، ففي 4 أبريل/نيسان بدأت الهاجاناه الهجوم على قوات حسن سلامة، ورغم أن مفرزة حيش القاوقجي المسلحة بالمدافع الثقيلة كانت بالجوار فإنها لم تتحرك لنجدته، وتكرر هذا الأمر يوم 9 أبريل/نيسان خلال معركة القسطل العنيفة بين قوات عبدالقادر الحسيني والهاجاناه، في تلك المواجهة العنيفة تبدلت أحوال الهزيمة والنصر مراراً بين الطرفين، ورصدت الهاجاناه مكالمة يطلب فيها الحسيني مدداً بالسلاح من القاوقجي؛ ليستمر في الصمود، ورغم يقين المخابرات الإسرائيلية بأن القاوقجي يمتلك كميات ضخمة من السلاح بفضل دعم الجامعة العربية، فإنه أجاب بأنه لا يملك شيئاً؛ وهو الأمر الذي دفع الصهاينة إلى عدم التراجع، الذي كادوا يقومون به أمام صمود عبدالقادر وجيشه، وهكذا انتهت ذخيرة عبدالقادر وقُتل، تعلِّق الوثائق الإسرائيلية بأن عبدالقادر كان أكفأ قادة المفتي العسكريين وأدى موته إلى بداية انهيار قوات المفتي، ولا شك في أن لخذلان القاوقجي دوراً كبيراً في ذلك!
وحتى نتعرف على الظروف العامة للصراع، علينا أن ننظر إلى حال العرب عشية حرب 1948، فخلال سنتين من انتهاء الحرب الكونية الثانية كانت هناك دول عربية مستقلة تماماً هي السعودية وسوريا ولبنان، في حين كانت العراق والأردن ومصر مستقلة الى حد ما، لكن ما زال بين كل منها وبريطانيا معاهدات تقيّدها في بعض الميادين، تمكنت هذه الدول الست من إقامة جامعة الدول العربية التي كان منوطاً بها العمل العربي المشترك، ورغم ذلك فإنه بنهاية عام 1947 كان يمكن ملاحظة أن الدول العربية قد تجمعت حول محورين: المحور الهاشمي الذي يقوده ملك الأردن عبدالله بن الحسين، الذي يرتبط مع العراق الدولة الهاشمية الأخرى ،بحلف والمحور الآخر يضم بقية الدول العربية المرتابة في تحركات الملك الأردني.
الملك الهاشمي عبدالله بن الحسين لم يكن يخفي تخطيطه لتوحيد كل دول الشام تحت قيادته، في حين كانت مصر ترى أن تحقيق هذا الطموح يهدد زعامتها للعالم العربي، وترى السعودية أن مخططات عبدالله بن الحسين قد تتطور للمطالبة باستعادة الحجاز. شكري القوتلي في سوريا كان الخائفَ الأكبر من الطموح الملكي على استقلال سوريا؛ ولذا فقد كان يدفع دائماً نحو حلف سوري مصري سعودي، موَّل الملك عبدالله بعض الانقلابات العسكرية الفاشلة التي حدثت في سوريا سنة 1947 والتي سمّتها الوثائق البريطانية الانقلابات الملكية، كما أن الملك كان له محالفون بين زعامات الدروز في جبل العرب، وهذا كان مخيفاً لشكري القوتلي، الملك وجد أن العلاقات الحسنة مع اليهود تضمن له تأييد بريطانيا وأمريكا لمشروعه، ولذا فإنه قام بإجراء مباحثات سرية مع اليهود قبل وفي أثناء وبعد الحرب، بل إن علاقاته مع اليهود بدأت منذ 1937، وقد تباحث -كما تقول الوثائق الإسرائيلية- مع كثير من زعمائهم مثل غولدا مائير وموسى ساسون وموشي دايان، وشارك في المحادثات من جانب الأردن غير عبدالله طبيبه الخاص شوكت الساطي وعبدالله التل.
عرض الملك على اليهود أن يكون لهم حكم ذاتي ضمن مملكته في سوريا الكبرى فرفضوا، ولكن المحادثات وصلت إلى التفاهم على تجنُّب خوض حرب بين الجيشين. كما قبِل الصهاينة أن يضم الملك عبدالله الأراضي التي نص قرار التقسيم على أن تبقى للعرب إلى مملكة الأردن، وتعهد الصهاينة بألا يعارضوا قيام سوريا الكبرى تحت قيادة الملك عبدالله بن الحسين.
إذن جاء استحقاق الانسحاب البريطاني في 15 مايو/أيار 1948، والعرب فريقان. كل منهما يريد التدخل لهدف مختلف عن هدف الفريق الآخر. ليس هناك اتفاق إلا على منع تمدُّد اليهود خارج ما أعطاهم إياه قرار التقسيم. وذلك رغم أن الموقف المعلن للعرب هو رفض قرار التقسيم، المحور الهاشمي يريد أن يضم الأراضى العربية في فلسطين إلى مملكته توطئة لقيام المملكة السورية الهاشمية، في حين يريد الآخرون فلسطين لأهلها بهدف إحباط الطموح الهاشمي. وهكذا عمل العرب للهزيمة.
(يتبع)
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.