مع الاستعداد الآن لرفع القيود المفروضة على السفر في ظل استمرار جائحة كورونا، بدأت تُطرح تساؤلات حول حتمية التعاون الإقليمي لإعادة فتح الاقتصاد وحركة البضائع والمواطنين مع محاصرة تفشي الفيروس، فهل تُصلح تلك الاعتبارات الصحية ما أفسدته السياسة في منطقة الخليج؟
موقع Responsible Statecraft الأمريكي نشر تقريراً بعنوان: "هل تصبح الأزمة الصحية العالمية حافزاً لتعزيز التعاون الإقليمي في منطقة الخليج؟"، ألقى الضوء على أهمية فتح قنوات دبلوماسية بين إيران ودول الخليج؛ حتى يمكن استعادة الحياة الطبيعية دون تعريض البلاد لأخطار موجة ثانية من التفشي.
إيران بؤرة التفشي
كانت إيران بؤرة الشرق الأوسط فيما يتعلق بتفشي فيروس كورونا، فقد اجتاح الوباءُ الجمهوريةَ الإيرانية في وقت مبكر من الأزمة الصحية العالمية. وفي حين لا يزال غامضاً متى وكيف دخلت أول حالة "الحالة صفر" إيرانية إلى البلاد، فمن الوجاهة افتراض أنه أو أنها كانت فرداً في إحدى الرحلات العديدة التي استمرت بين إيران والصين حتى بعد أسابيع من تفشي فيروس "كوفيد 19" في ووهان. فبسبب نظام العقوبات الأمريكي الشامل المفروض على إيران، أصبحت الصين على نحو متزايد، شريانَ حياةٍ اقتصادي لا تستطيع طهران ببساطةٍ التخلي عنه؛ ومن ثم، استغرق الأمر وقتاً أطول بكثير من جانب إيران، مقارنةً بغيرها من الدول، لكي توقف الرحلات من وإلى الصين.
تفترض دراسات وتقديرات مختلفة من مؤسسات بحثية داخل وخارج إيران، أن حالات العدوى الأولى تعود إلى منتصف يناير/كانون الثاني، في حين لم تؤكد السلطات تفشي الفيروس رسمياً إلا في منتصف فبراير/شباط، ثم استغرقت الدولة أسابيع إضافية لنشر خطة احتواء مناسبة. في غضون ذلك، ظهرت تقارير من الدول المجاورة لإيران بشأن حالات الإصابة الأولى بفيروس كورونا، ومعظمها لأشخاص كانوا عائدين لتوِّهم من إيران.
ونتيجة لذلك، أغلقت جميع الدول المجاورة لإيران حدودها البرية والبحرية والجوية من وإلى إيران، واضطر المواطنون المرحَّلون أخيراً والعائدون من رحلات طويلة إلى الخضوع للحجر الصحي لمدة 14 يوماً عند وصولهم إلى بلادهم. ربما كان الدافع إلى ذلك محض القلق على وضعهم الصحي الخاص، لكن ربما أيضاً لشعورٍ حقيقي بالمسؤولية أبدى جيران إيران في شبه الجزيرة العربية استعداداً لتقديم المساعدة للجمهورية الإيرانية.
دعم بسبب الأزمة الصحية
والواقع أن دولاً مثل قطر والكويت والإمارات وعُمان، وحتى السعودية، أبدت لحظة تضامن في وقت مبكر من أزمة كورونا في إيران: فقد عرضت قطر أسطول الشحن الخاص بها مجاناً لتوفير الإمدادات الطبية، وتبرعت الكويت بمبلغ 10 ملايين دولار لدعم إيران. وأرسلت الإمارات طائرتي مساعدات مع المعدات الفنية، من أدوات اختبار وغيرها، إلى إيران في الوقت ذاته تقريباً، في حين خصصت السعودية، إلى جانب أعضاء آخرين في منظمة "أوبك"، 500 ألف دولار لإيران من "صندوق أوبك للتنمية الدولية" (OFID)؛ لمساعدة البلاد في شراء المعدات الطبية اللازمة، كما أرسلت سلطنة عمان مؤخراً الدفعة الثانية من المساعدات الطبية (بلغت 40 طناً، حسب التقارير) إلى إيران.
في غضون ذلك، أصبحت إيران معتمدة على نفسها في إنتاج أجهزة التنفس الصناعي وأقنعة الوجه الطبية والمطهرات، وباتت ترسل الآن مجموعات اختبار منتجة محلياً ومعتمدة دولياً إلى الخارج. كما يعرض الجهاز العسكري الإيراني مشاركة تجربته مع دول المنطقة فيما يتعلق بالتعامل مع هذه الأزمة الصحية.
وفي حين يبدو مخالفاً للسائد العام، بالنظر إلى التوترات الجيوسياسية المهيمنة على المنطقة، يوجد شعور بين أصحاب المصلحة الإقليميين في منطقة الخليج بأن "لحظة التضامن الإقليمي" هذه يمكن أن تتحول إلى "زخم يفضي إلى التضامن الإقليمي"، إذ تتطلب التحديات التي لا تعبأ بالحدود استجابات لا تعبأ بها أيضاً، وهذا ينطبق على الأوبئة بقدر ما ينطبق على القضايا البيئية والتغير المناخي.
أفكار أولية
وقد جرى تطوير بعض الأفكار الأولية في هذا الاتجاه خلال التبادلات الأخيرة التي أجراها "مركز البحوث التطبيقية بالشراكة مع الشرق" (CARPO) بالاشتراك مع "مؤسسة مركز الخليج للأبحاث" (GRCF) في إطار مشروع تفاهم.
في ظل الوباء الحالي، يمكن أن تكون الخطوة الأولى نحو التعاون الإقليمي هي تطوير قاعدة بيانات إقليمية لتبادل المعلومات المتعلقة بعدد حالات الإصابة والوفيات والتعافي، وكذلك القدرات الاستيعابية للمستشفيات والأطقم الطبية والأدوية، وهذا من شأنه أن يساعد في الاستجابة بسرعة لقرارات تقليص القيود الخاصة بالسفر أو استئناف الرحلات بين دول الخليج، ومساعدة بعضها بعضاً فيما يتعلق بالدعم الطبي المطلوب وتقديم أسرّة المستشفيات لمواطني البلدان المجاورة، ومن أجل أن تكون الدول قادرة على القيام بالأمر الأخير، سيتعين تنظيم تأشيرة خاصة بينها، ولكن بالنظر إلى إمكانية إنشاء مستشفيات متنقلة، يمكن تحويل المناطق الحدودية على وجه الخصوص إلى مراكز علاج إقليمي.
ويجب عدم الاستهانة بالتحديات الاقتصادية التي من المتوقع أن تأتي في أعقاب الجائحة، إذ تُظهر حالة إيران أن عمليات الإغلاق لا تُنفَّذ على نحو محكم عندما تكون الدولة عاجزة عن تخصيص الاحتياجات المالية اللازمة لتنشيط الاقتصاد الذي يتضرر بشدة من الإغلاق. ومن ثم يمكن إنشاء صندوق إقليمي للتعامل بمرونة مع التحديات الاقتصادية في أوقات الأزمات الصحية تحقيقاً لهذه الغاية.
علاوة على ذلك، يشدد الخبراء المتحاورون في الشؤون الخليجية على التحدي المتمثل في التعامل مع فئات المجتمع التي تكسب أرزاقها بالكامل تقريباً في قطاعات اقتصادية غير رسمية (الباعة الجائلين، وسائقي سيارات الأجرة، وتجارة السوق السوداء)، وأولئك الذين لا تضمهم أي شبكة تأمين بوجه عام، إضافةً إلى المهاجرين الذين يعملون في ظروف عمل تفتقر إلى الحماية القانونية أو التأمين لتغطية احتياجاتهم، ففي ظل هذه الأزمة يجب الشروع في تبادل وجهات النظر حول كيفية حماية هذه الطبقات الأكثر هشاشةً من الناحية الاقتصادية، من أجل وضع خطط طوارئ لهذه الفئات التي تضم عشرات الملايين من سكان دول الخليج.
كما أظهرت هذه الأزمة الصحية الأهميةَ التي لا تقدر بثمن لإبقاء القنوات الدبلوماسية عاملةً، وإن سادت الخلافات السياسية. فقد أدى الافتقار إلى هذه القنوات بين المنامة وطهران، على سبيل المثال، إلى تأخير عودة المواطنين البحرينيين العالقين في إيران إلى بلادهم البحرين، وبفضل عُمان، أمكن إعادتهم في النهاية إلى بلادهم.
غالباً ما تجري مناقشة الشؤون الصحية على أنها مسائل تخص "الأمن الناعم" (soft security) [بخلاف "الأمن الصلب" المتمثل في التحديات العسكرية والأمنية للدولة]. وينطبق الشيء ذاته على القضايا البيئية، مع أن أياً منهما لا يشكل تهديدات "ناعمة" أو يسيرة للدولة؛ بل العكس: هذه تهديدات وجودية لسبل عيش 210 ملايين شخص. وقد تكون جائحة كورونا لحظةً للتوقف وإدراك مدى أهمية إجراء حوار إقليمي حول الأمن الصحي وسبل التعامل المرن مع التحديات الصحية لدول المنطقة.