لعل ما يميز الشاعر والكاتب والنمساوي راينر ماريا ريلكه (1875-1926) عن بقية شعراء الحداثة الرومانسيين، هو رحلته الباطنية إلى أعماق النفس الإنسانية وما تعتري هذه النفس من تصورات وإدراكات وأوهام عن العالم الخارجي، وقد عرف عن ريلكه أنه شاعر الحب والموت، فهو يربط بينهما بطريقة ساحرة وعجيبة، وعرف أيضاً بحاسيسته المفرطة تجاه العالم الخارجي، فكان شاعر المجاهيل المعتمة وعرًّاب العزلة والقلق العميق.
رسائل إلى شاعر شاب
كتاب "رسائل إلى شاعر شاب" يضم مجموعة من المراسلات التي تمت بين شاب طموح وقلق يدعى فرانز اكسفر كابوس وهو ذو تسعة عشر عاماً طالب في الأكاديمية العسكرية مع الشاعر ريلكه، ودامت هذه المراسلات ما يقارب ست سنوات، جمع كابوس هذه الرسائل عام 1929 بعد وفاة ريلكه بثلاثة أعوام، وهي عبارة عن الإجابات فقط ونشر منها عشر رسائل ضمها الكتاب بين دفتيه.
ففي عام 1903 عندما كان ريلكه في أوج شهرته ومكانته الأدبية العالمية وتحديداً في سن الثامنة والعشرين، مر بمرحلة من الضجر أو الخمول الإبداعي، فجمعته مراسلات مع كبار الأدباء والفنانيين تزجية للوقت وتحفيزاً لنشاطه الفكري والإبداعي، وهذا لم يمنعه من رسائل أيضاً مع شبان مغمورين وشعراء ناشئين وكان من ضمنهم فرانز كابوس، الذي ستصبح رسائل ريلكه إليه مرآة كونية تنصهر فيها الأنا مع الآخر والتي ستعتبر فيما بعد من أهم منجزات ريلكه الفكرية والفلسفية.
ملامسة المصير الإنساني
لم تكن مجرد رسائل أو كتاب يتضمن أدب المراسلات مع شاعر شاب، بل تمحورت كثير من الرسائل حول مواضيع جوهرية تلامس الإنسان والمصير الإنساني، نابعة من رؤية ريلكه الفلسفية العميقة في الحياة ومن حدسه وتأملاته في الأشياء والموجودات، أضف إلى ذلك هنا طاقة كبيرة تنفجر من وعي ريلكه الحاد وفكره السامي في تقديس الحياة وحبها، فالحياة دائماً على حق حسب تعبير الشاعر، وما يحدث للإنسان من أمراض وحروب وقلق وكآبة هي مجرد تحولات كبرى تعقبها ولادات جديدة، والحياة تحول دائم، كل جيد أو سيئ هو تحول أيضاً فالأشياء يجب أن تحدث وأن تمر على الإنسان دون تدخل العقل في إصدار الأحكام والمحاكمات، بل لا بد أن يكون مراقباً ذكياً لتمرحل الإنسان في دوامة الحياة الشائكة والمعقدة، كما أنه يؤكد على قوة الإرادة الإنسانية تلك الإرادة التي تبقي الإنسان حراً رغم القيود التي تكبل العالم والبشر .
يركز ريلكه كثيراً في إجاباته عن رسائل الشاعر الشاب فرانز كاوبوس على مفهوم فرح الكينونة والتسليم باللحظة الراهنة خارج الزمن التي من الممكن أن تصبح لحظة أبدية في حياة الإنسان.
"يجب أن تعيش الحياة لأقصى حد، ليس بناء على كل يوم، ولكن بناء على عمق كل يوم"
الإيمان الحقيقي والعميق بفكرة ترافق الإنسان طيلة حياته، قد يمنح حياة المرء إشراقاً وإيقاعاً ساحراً ، عكس اللهاث المستمر وراء الالتماعات الكاذبة، والانجرار إلى أفخاخ ينصبها الوهم في خريف العمر. نستطيع أن نرى هنا كم بلغت بصيرة ريلكه من الغزارة والاتساع العظيم، فصار يرى في الفن والجنس تكاملاً إبداعياً، وشهوة معرفية قادرة على الخلق والولادة، سواء كان في الجسد أو الروح، فكلاهما يتساويان في الغاية الوجودية والمعرفية.
يعبر ريلكه بطريقة عدمية استثنائية عن امتنانه العظيم للحياة وعن فرح الكينونة الذي يجب أن يغمر الإنسان حتى في أقصى حالاته تشاؤماً وكآبة:
"إلهي كم تكمن روعة الحياة تحديداً في عدم قدرتنا على توقعها وفي الخطوات الغريبة النابعة من عمى أبصارنا أحياناً خلقت هذه الحياة بصدق شديد لكي تفاجئنا، لا لترعبنا.
ينبغي على المرء تحويل أكبر إمكانية بداخله إلى مقياس حياته، لأن حياتنا فسيحة جداً، للحد الذي يمكنها أن تسع أكبر قدر ممكن من المستقبل الذي باستطاعتنا تحمله".
تبتدىء أولى رسائل ريلكه إلى الشاعر الشاب في باريس 17 فبراير/شباط 1903
بالتأكيد على الدافع الحقيقي للكتابة، فهو يطلب منه أن لا يسأله وأن لا يطلب منه النصح والمساعدة، بل عليه أن يلتفت إلى ذاته وملاحظة هل هذه الكتابة ترسل جذورها إلى الأعماق؟
اسأل نفسك هل ستموت لو حرمت منها؟
إن العمل الفني رائع فقط لو نشأ من دافع الحاجة.
ففي هذه الرسالة ومعظم الرسائل يؤكد ريلكه على الشعرية وأن تحيا شعرياً على هذه الأرض وفي الأعماق، فالشعر الذي يبقى ملاصقاً للكينونة وحركة الأشياء من حولنا يمنحنا النضج المختلف والوعي الصافي النقي، والإدراك المتوهج، إنه الوجود المثالي الذي تخلقه المخيلة العظيمة ويبقى مرادفاً وملاصقاً للوجود اليومي والمعاش حتى في أدق وأبسط التفاصيل اليومية.
إضافة إلى ذلك فالكتابة عند ريلكه أيضاً عبارة عن خبرات متراكمة من القراءات والتجارب الشعورية والحسية والوقوف الحقيقي عند حافة الخطر ومواجهة الصعاب، ومن هنا تنشأ بذرة الإبداع الذي يغذيه الجوع المعرفي والأسئلة الوجودية الكبرى.
كما أنه لا يخفي تأثره العميق وإعجابه الدائم بكتاب وفنانين منحوه الخبرة وخلود الإبداع،
مثل الروائي والشاعر الدانماركي جاكبسون و النحات الفرنسي رودان.
وفي رسالة مؤرخة بتاريخ 23 ديسمبر/كانون الأول 1903، ينصح ريلكه الشاعر الشاب فرانز كابوس أن يكون قريباً من الجمادات في وحدته وأن يربي عزلته الباطنية الفسيحة مع هذا السكون الغامض والمؤلم الذي ينبض في قلب الأشياء وجمودها المخيف، وهذه أيضاً إحدى تجارب ريلكه الشعرية العظيمة في تحويل الجمادات إلى رموز شعرية ونفسية.
إن لم يكن هناك ما يمكنك مشاركته مع الآخرين، فحاول أن تكون قريباً من الجمادات فهي لن تهجرك، وستظل هناك الليالي والرياح التي تتحرك عبر الأشجار وفوق الأراضي،كل ما في العالم من جمادات وحيوانات مازالت ممتلئة بالأحداث التي يمكنك أن تكون جزءاً منها.
الحزن واليقظة الداخلية
يصف ريلكه في إحدى رسائله، أن الحزن وجود غريب يتسلل إلى بقعة حساسة فينا، شيء جديد ومجهول تنمو مشاعرنا خلاله في صمت وارتباك محرج، فالحزن يمر بنا بسبب ذلك الوجود الذي أضيف إلينا وولج إلى قلوبنا وغاص إلى أعماقنا فلم يعد بالإمكان تمييزه إنه في مجرى دمنا فعلياً، فالحزن هو لحظات من التوتر نشعر بها كالعاجزين؛ لأننا لم نعد نصغي لعواطفنا المدهشة والمفعمة بالحياة.
لكن ريلكه لم يستسلم للحزن وطاقته التدميرية، بل على العكس إنه يؤنسن الحزن، و يضفي عليه طابعاً سحرياً وجمالياً، فهذا الوجود المرعب والغريب الذي سكن أعماقنا وبدأ بتغيير مسارات حياتنا، عندما يبدأ بالخروج منّا إلى الآخرين، سوف نشعر بمدى قوة علاقتنا وقربنا منه في دواخلنا، ونكتشف بأن ما حدث معنا لم يكن غريباً عنا ومن الخارج، بل كان ملكاً لنا في الأصل منذ مدة طويلة.
عزيزي السيد كابوس:
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.