هُنا في عاصمة الفن والجمال يجلس في شرفة منزله بصُحبة صديقتيه الوحيدتين؛ علبة سجائر باهظة الثمن وزجاجة من الكونياك العابر للزمن، مستغرقاً في تفكيره كالعادة، يبحث عن أفكار جديدة يغزو بها كرة القدم مجدداً مثلما فعل في العقدين الأخيرين، ولكن القدر يعبث بكل أفكار التكتيك من رأسه، ويجلب أفكاراً أخرى، كانت أكثر تعقيداً بطبيعة الحال، كوابيس الحرب العالمية الثانية، لوقوع أسيراً في أيدي قوات التحالف، خداع السوفييت والعودة لدياره مرة أخرى، وبدء مسيرته الكروية الحافلة سواء كلاعب أو مدرب، هل حقاً يُولد المجد من رحم المعاناة؟ أم أنها مجرد جملة مجازية يستخدمها الشعراء والأدباء في قصصهم الخيالية فقط، إرنست هابل.. معجزة في زمن لم يعد يصلح للمعجزات.
هتلر يُهدد مسيرة إرنست هابل
يُقال إن فيينا مدينة صالحة للأحلام، ولكنها أبت أن تحقق حلم (إرنست هابل) الأول والأخير في تلك الفترة، لم يلبث أن انضم لفريق الشباب لناديه المفضل حتى تصدر الأوامر من الرايخ الألماني: جميع لاعبي فريق الشباب في رابيد فيينا يجب عليهم الانضمام إلى منظمة هتلر للشباب، استعداداً للمشاركة في الحرب العالمية الثانية، من هنا أصبح هتلر العدو الأول للشاب النمساوي، بدأ التمرد على النظام النازي برفضه المشاركة مع أقرانه في المنظمة بالغناء لهتلر، تم طرده من المنظمة، ولكن المتاعب لم تنتهِ، فقد تم تجنيده وإرساله إلى الجبهة الشرقية -إحدى المناطق الأكثر اشتعالاً في تلك الفترة من الحرب- بالرغم من أنه لم يمسك سلاحاً مطلقاً من قبل، وقع أسيراً في أيدى القوات الأمريكية بعد عامين في ساحة القتال، وأثناء ترحيله إلى ميونيخ يُلقي بنفسه من القطار، يختبئ يوماً.. أسبوعاً.. عدة أشهر، تنتهي الحرب ويخرج من كهفه المعزول، يتسلل لمناطق نفوذ الجيش السوفييتي على الحدود النمساوية، "هذا منزلي، لم يتعرض للقصف، إنه مازال قائماً"، هكذا خدعهم وعاد إلى بلاده مرة أخرى، وعاد إلى ناديه المفضل أيضاً حتى يطرد كوابيس هتلر والحرب والسنوات السبع الضائعة من رأسه للأبد.
ذهبٌ لا يصدأ
الحرب انتهت، وبدأ "هابل" مسيرته كلاعب، والتي استمرت 17 عاماً بين فيينا وباريس، وقرر خوض تحدٍّ جديد بدخوله مجال التدريب، كل شيء ثابت وممل بعد سنوات الحرب الطويلة، كأن غيوم الحرب مازالت تهدد أوروبا، ليست حرباً عسكرية كسابقتها بطبيعة الحال، إنما هي حرب أفكار، هنا ظهرت شخصية "هابل" المتمردة عن المألوف وكل ما هو تقليدي، حرب ضد الملل ورتابة كرة القدم، الكاتيناتشو يسيطر على كرة القدم حول العالم، وانتشرت مقولة "إذا أردت أن تكون بطلاً فلا بد أن تدافع وتدافع وتدافع، ثم تفكر بعد ذلك في الهجوم"، لم يرُق هذا الأمر لهابل، وقرر الثورة على أفكار "كارل رابان، نيريو روكو، هيلينيو هيريرا).
"في كرة القدم لا يمكن الوصول إليه لأنه لا يمكن لأحد أن يخدعه بعد الآن. من ناحية أخرى يمكن أن تساعد الصدفة حتى أبسط مدرب للفوز ببطولة كأس هنا أو هناك. لكن (هابل) ظهرت بصمته في كل مكان، هذه مهارة". ماكس ميركل عن إرنست هابل.
من كلمات ماكس ميركل يمكن تلخيص مسيرة هابل التدريبية الممتدة على مدار 30 عاماً، نجاحات في كل مكان لم تكن أبداً من قبيل الصدفة، في هولندا كانت تجربته التدريبية الأولى، 6 مواسم مع نادي (أدو دين هاج)، كانت كفيلة بأن تفتح أعين العالم على مولد مدرب كبير، نية هابل لحصد البطولات كانت واضحة، خسارة نهائي الكأس في أول مواسمه، خسارة تبعتها خسارة نهائيين متتاليين أيضاً لنفس اللقب، ولكن بعد 3 محاولات فاشلة وفي موسم 1976/1968 يقرر القدر أن يعوض "هابل" عن الإخفاقات السابقة، ويفوز بلقبه الأول بعد الفوز على أياكس في النهائي.
بعدها قرر خوض تحدٍّ جديد، رحلة صغيرة لا تتعدى بضعة أميال، يترك دين هاج ويصبح مدرباً جديداً لـ"فينورد"، حيث وضح جلياً للعالم أن المدرب الشاب في طريقه لغزو الكرة الأوروبية، لم يكتفِ بالفوز بالدوري الهولندي فقط، بل حقق لقب دوري أبطال أوربا لأول مرة في تاريخ الفريق الهولندي، وبعد عدة أشهر ألحقها ببطولة القارات للأندية، ولولا اصطدامه بجيل أياكس التاريخي بقيادة رينوس ميتشلز ويوهان كرويف لاستحوذ على البطولات المحلية والأوروبية عوضاً عن أياكس عدو فينورد اللدود.
"قد شهدنا الكثير خلال تلك الفترة، لا بد لي من التوقف، مع الكثير من الانتصارات ينخفض الانضباط، أصبحنا أصدقاء للغاية، نحن نعاني ونبكي، نضحك ونربح معاً، وهذا يجب ألا يستغرق وقتاً طويلاً".
- إرنست هابل عند مغادرته فينورد.
تتوالى التحديات، يخرج من هولندا في رحلة قصيرة إلى إسبانيا في إشبيلية، ليتسلم منصب المدير الفني للنادي الأندلسي موسماً واحداً فقط، وقاد النادي للتأهل إلى الليغا بعد سنوات من الغيابات بالدرجة الثانية.
بعدها رحلة أخرى إلى بلجيكا هذه المرة، في كلوب بروج، حيث تمكن هناك من السيطرة على الكرة البلجيكية، حصد 3 بطولات للدوري، وبطولتين للكأس، وبطولة أخرى للسوبر البلجيكي، كل هذا في 4 مواسم فقط.
مشاكل طاحنة تضرب الإدارة الفنية لمنتخب هولندا قبل أشهر قليلة على بداية كأس العالم في الأرجنتين عام 1978، يبحث الاتحاد الهولندي عن شخص قادر على تخطي الأزمة، يقع الاختيار على إرنست هابل، ويوافق المدرب النمساوي على تدريب المنتخب الهولندي، يقود المباريات المتبقية بالتصفيات ثم يقود الطواحين في المونديال، وبالرغم من خسارة أولى مبارياته بالبطولة تمكن من الوصول إلى نهائي البطولة بالرغم من خلو القائمة المشاركة من نجمي المنتخب وقتها (يوهان كرويف، وين فان هانجيم) ويخسر من الأرجنتين منظمة البطولة في النهائي بعد امتداد المباراة للوقت الإضافي.
هدنة قصيرة لالتقاط الأنفاس بعد تلك المواسم المتعاقبة، في بلجيكا أيضاً يعود، ولكن هذه المرة مع "ستاندر دو لييج" وفي موسمين حقق بطولتي الكأس والسوبر المحلي، بعدما قرر أن يجرب تحدياً جديداً ومغامرة أخرى على أمل العودة للعرش الأوروبي.
يعود مرة أخرى إلى ألمانيا، بذكريات الماضي الأليم، ذكريات هتلر والحرب التي كانت على وشك إنهاء حلمه الكروي، رحلة جديدة وتحدّ من نوع خاص في هامبورغ، في أول مواسمه يفوز بالدوري ويخسر نهائي كأس الاتحاد الأوروبي، في موسمه الثاني جمع هابل بين الدوري ودوري الأبطال، تذوق المجد الأوربي مجدداً، فريق الأحلام، هكذا لقبته الصحافة الألمانية، يقهر يوفنتوس الإيطالي ويتربع على عرش أوروبا للمرة الأولى في تاريخه، العشرية الأفضل في تاريخ النادي الألماني بفضل مواسم هابل الـ6 التي قضاها هناك، حصد بطولتي دوري، ومثلهما في السوبر المحلي ولقباً وحيداً لكأس ألمانيا، ودوري الأبطال والسوبر الأوروبي، هو من جعل سكان المدينة الساحلية يتغنون بكرة القدم.
عد تلك النجاحات، وتعدد سنوات الغُربة الطويلة، الحنين إلى الوطن يدق أبواب هابل، وهنا يقرر العودة مرة أخرى إلى النمسا، ولكن هذه المرة يخرج من ألمانيا كبطل مُتوج، ليس هارباً مثل المرة الأولى، يعود إلى نادي "سواروفسكي تيرول" ويبدأ في السيطرة على الكرة النمساوية، يجمع بين الدوري والكأس ويستمر في تقديم نهجه الكروي الذي ألهم به أوروبا، وهنا يُعرض عليه تدريب المنتخب النمساوي، فيقرر الاعتذار عن استكمال مسيرته مع ناديه النمساوي، على أمل خوض تحدٍّ جديد مع منتخب بلاده في رحلة الوصول لكأس العالم 1994.
مسيرة طويلة لازمتها البطولات في كل رحلة، يكفي أنه كان أول مدرب يفوز ببطولة دوري الأبطال مع ناديين مختلفين، إنجاز فريد بالطبع، حققه لاحقاً 4 مدربين لينضموا إلى هابل، بالإضافة إلى فوزه ببطولة الدوري والكأس في 4 بلدان مختلفة، إنجاز لم يحققه سوى 6 مدربين فقط في تاريخ كرة القدم.
ملحوظة هامشية: تعرض نادي "سواروفسكي تيرول" لأزمات مالية طاحنة أجبرته على إعلان إفلاسه وتم شطبه من سجلات الأندية في الاتحاد النمساوي عام 2002.
ملحوظة هامشية 2: الأربعة الآخرون الذين حققوا لقب دوري أبطال أوروبا مع ناديين مختلفين هم: كارلو أنشيلوتي (ريال مدريد وبايرن ميونيخ)- جوزيه مورينيو (بورتو وإنتر)- يوب هاينكس (ريال مدريد وبايرن ميونيخ)- أوتمار هيتزفيلد (بوروسيا دورتموند وبايرن ميونيخ).
حقيبة أفكار هابل التكتيكية
يمكننا استنتاج أفكار هابل التكتيكية من خلال هاتين الجملتين، جملتان شكّلتا ثورة في عالم التكتيك وقتها، ومازال أثر تلك الأفكار واضحاً حتى الآن "أنا هنا من أجل كرة القدم الهجومية، بداية الهجمة من الخلف، هذه لعبة جماعية، وفي حالة مواجهة خصم قوي، ومع تلك الكرة الهجومية التي نقدمها يجب عليك أيضاً اللعب دفاعياً أولاً، ثم القيام بهجمات منظمة، كما يجب دائماً مهاجمة الخصم مبكراً من خلال الضغط".
و"لكن ما الذي أحصل عليه من لاعب يلعب بالكرة فقط ولا يقوم بأي شيء بدون كرة"
رباعي دفاعي، وآخر هجومي، بينهما ثنائي في وسط الملعب، كرات طويلة، الجميع يتشبث بمركزه، كرة قدم كلاسيكية، أصابت الجميع بالملل، وكان لزاماً على أحد أن يأخذ على عاتقه مسؤولية القضاء على الملل، ظهر المتمرد هابل مجدداً، طريقة جديدة، مهام جديدة، كأن العالم على أعتاب ثورة كروية جديدة.
في موسمه الأول يفاجئ هابل الجميع بطريقته الجديدة، رباعي دفاعي عبارة عن ثنائي بالعمق وثنائي على الأطراف، ثلاثي بالوسط مكوّن من لاعب ارتكاز صريح وثنائي آخر. مع ثلاثة مهاجمين "اثنان على الأطراف ولاعب بالعمق"، دفاع متقدم، تمريرات قصيرة دقيقة، الضغط المستمر على الخصم، الحركة بدون كرة، تحركات الجناح إلى العمق لترك مساحات للظهير المتقدم، هنا ظهر ما يطلقون عليه اليوم "الكرة الشاملة"، ظهرت مع هابل قبل أن تظهر مع "رينوس ميتشلز، فاليري لوبانوفسكي"، حيث يعتبر هابل من الرعيل الأول لمدربي الكرة الشاملة.
هذا بالطبع بالإضافة إلى تطويره مركز وسط الملعب، لم يكن الأمر مجرد سحب لاعب من خط الهجوم، وإضافة آخر في وسط الملعب، لا بد أن يكون للاعب وسط الملعب أدوار هجومية واضحة، يتحرك للأمام وتجده مهاجماً ثانياً في بعض الأوقات، في أوقات أخرى يميل على أحد الطرفين لمساندة الجناح والظهير لعمل مثلث هجومي قادر على حل التكتلات الدفاعية، ببساطة يمكننا القول إنه لا يوجد ما يسمى باللعب الموضعي عند إرنست هابل .
لم يقتصر الأمر على هذا الحد فقط، بل يعتبر هابل من أوائل المدربين الذين طبقوا التسلل بإتقان للغاية، بعيد ظهوره لأول مرة في كرة القدم، لدرجة جعلت الخصوم يفقدون القدرة على كسر تلك المصيدة التي طبقها لاعبو هابل بنجاح شديد.
- جونتر نيتزر لاعب بروسيا مونشينجلادباج عن مصيدة التسلل التي لعب بها مدافعو فينورد الهولندي
"لديك أحد عشر حماراً في الملعب عندما تغطي اللاعبين وتعتمد على الرقابة الفردية!"
- إرنست هابل
كل شيء داخل الملعب عند هابل كان مقترناً بالمساحات، المسافات بين اللاعبين، كيفية استخدام الفراغات في شن الهجمات على الخصوم، وكيفية غلق هذه الفراغات أمام الخصوم، الأمر مثل الشطرنج، كل لاعب يقوم بخطوة، يجب أن تؤثر هذه الخطوة على زميله، ومن هذا اللاعب إلى الآخر، الذي يتحرك أيضاً كرد فعل لتحرك الأول ثم الثاني، وهكذا، شبكة مترابطة فيما بينها، لا يوجد شيء متروكاً للصدفة.
هابل المثير للجدل.. عندما كان جوزيه مورينيو نمساوياً
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.