إذا تحدثنا عن مظاهر استقبال رمضان في الجزائر، فبالتأكيد سنذكر الموسيقى الأندلسية، التي تجمع الشعر العربي بالموسيقى الشعبية الإسبانية التي انتقلت من بلاد الأندلس الإسلامية مع جميع المقامات المغاربية والعربية الأصيلة.
يرتبط هذا النوع الموسيقي بثلاث مدنٍ جزائرية بالأساس، وهي الجزائر العاصمة والبُليدة وتلمسان، حيث اشتهر "الحوزي" في الأخيرة منذ القرن الخامس عشر، حين كانت عاصمةً للدولة الزيانية (قبيلة الأمازيغية حكمت في المغرب الأوسط (الجزائر) بين 1235: 1554)، ولكل منطقة مدارس موسيقية مختلفة تطورت على مر الزمان.
في هذا التقرير سنستعرض تعريف هذه الصنعة الموسيقية وتطورها وأبرز مدارسها:
كيف وصلت الموسيقى الأندلسية للجزائر؟
حمل الأندلسيون موسيقاهم الشعبية (تعود للقرن العاشر الميلادي) معهم خلال هجرتهم إلى بلاد المغرب العربي إثر سقوط غرناطة عام 1492م هرباً من محاكم التفتيش الإسبانية، بينما استقبل الجزائريون الموسيقى بحفاوة، لكنهم غيّروا نصوصها الأدبية وبعض أوزان الإيقاع والمقامات الموسيقية، وطوروها بإضافة ألحان وأشعار محلية.
طوال أكثر من 5 عقود تناقلت الأجيال هذا التراث الأندلسي الشفوي بالمزيج التراثي الجزائري، لتكون الموشحات بذلك أحد أبرز الجسور الثقافية بين الشرق والغرب، وأصبح له شعبية كبيرة، خاصةً مع تطور الكلمات والموسيقى بشكل خاص لكل منطقة لتكون تراثاً معبراً عنها، ثم أصبح مدارس متنوعة لهذا الفن التاريخي، فضلاً عن الكلمات التي تخاطب النفس وتهذبها.
مدرستان أساسيتان للمزيج الفني الأندلسي – المغرب
رغم تنوع مدارس هذا الفن الأصيل، فإنها في الأغلب انبثقت من إحدى المدرستين العريقتين، "الغرناطي" الشهيرة بمنطقة تلمسان (شمال غرب)، و"المالوف" الشهير بمدينة قسنطينة (الشرق)، التي انبثقت منها مدرسة ثالثة لاحقاً وهي "موسيقى الصنعة".
تلمسان، أول ولاية جزائرية احتضنت الفن الأندلسي وحافظت على هذا الموروث إلى الآن، حيث تعد المدينة عاصمة الموسيقى الأندلسية الجزائرية، ولقبت المدينة بـ"غرناطة إفريقيا"، والفن الغرناطي يعتمد على مجموعة مصطلحات تشترك فيها أنماط الموسيقى الأندلسية المغاربية، ويعتبر فن المطروز والحوزي أحد أنواعه.
تملك مدرسة الغرناطي 12 مقاماً، ويسمى المقام بالنوبة (النوبة: مقام يجمع مزيجاً بين الموسيقى العربية والأندلسية) كاملة (تتضمن المراحل الإيقاعية كلها) و4 نوبات ناقصة، كما كانت هناك نوبات أخرى تستعمل إيقاعات خاصة تسمى انقلابات، يتصدر في هذه المدرسة صوت العود العربي مع الكمان بالإضافة للطبل والناي والقانون، ويبلغ عدد عازفيها أكثر من 30 موسيقياً، وفق تقرير "نون بوست".
أما تلمسان، حيث تطورت مدرسة المالوف (مالوف تعني وفي للتقاليد) ظهر الفن المتغني بالطبيعة والحب، الذي جمع 24 من المقامات المغاربية العربية الأصيلة، لكن لم يصل منها إلى عصرنا سوى 12 نوبة فقط. ويستعمل بهذا الفن الغيطة (آلة نفخية)، وآلات رقية من جلود الحيوانات، كما تضم من الآلات الوترية: العود والكمنجة والقانون والقرنيطة والناي.
الحوزي ورمضان
تطورت مدارس أخرى من هذا الفن التراثي، وارتبط بعضها بقدوم رمضان، مثل مدرسة الحوزي، التي قدمت أغاني حاضرة باستمرار في السهرات الرمضانية مثل أغنية "أنا طويري" (تصغير الطير)، فهذه المدرسة تحديداً ركز شعراؤها ومطربوها على مر الزمان على الغناء لجراح وخيبات الحياة، والتوبة إلى الخالق.
سيدة الغناء الحوزي
وإن تحدثنا عن الحوزي لابد أن نتحدث عن سيدته، فضيلة الدزيرية، التي تعد من أشهر مغني هذه المدرسة في العصر الحالي، فقد برز اسمها في وقتٍ لم يكن للمرأة فيه حضور على الساحة الفنية، ولم تكن مجرد فنانة، بل ناشطة تجمع الأموال لترسلها مع الفدائيين إلى المجاهدين في الجبال من أجل شراء الأسلحة والذخيرة خلال ثورة التحرير.
استمر النضال حتى تحوّلت إلى عنصر خطير بالنسبة لقوات الاحتلال الفرنسي التي زجّت بها في أخطر السجون وهو سجن "سركاجي"، وبعد فترة السجن أسست فرقتها الغنائية المتخصصة في غناء الفن الحوزي، وتركت قبل رحيلها 1970 أرشيفاً فنياً لا يزال حاضراً إلى اليوم في الأمسيات الفنية والرمضانية، وفق صحيفة "الشعب" الجزائرية.