عادةً ما يستمتع السوريون خلال شهر رمضان بألمع المسلسلات الدرامية، لكن في هذا الشهر المبارك تشد أنظارهم ملحمةٌ عائليةٌ حقيقيةٌ لا مثيل لها. انفَجَرَ نزاعٌ عائلي داخل العائلة السورية الحاكمة، المُتكتِّمة عادةً على مجرياتها الداخلية، حيث يواجه أحد المليارديرات ابن عمته، الذي هو الرئيس نفسه، بشار الأسد، كما تصف ذلك صحيفة Financial Times البريطانية.
فبعد ثمانية أعوام من العمل الخفي، بينما كان يسيطر على إمبراطورية أعمالٍ كبرى، نَشَرَ رامي مخلوف، ابن خال الرئيس السوري بشَّار الأسد وقطب الأعمال الأكبر في البلد الذي مزَّقَته الحرب، مقطع فيديو يظهر فيه بادِّعاءٍ غير مُتوقَّع أن السلطات السورية تنهب أعماله والشرطة السرية تستهدف موظَّفيه.
قال مخلوف، الذي ظَهَرَ جالساً في بثٍّ حيّ على منصة فيسبوك، الأحد الماضي 3 مايو/أيَّار: "هل توقَّع أحدٌ أن أجهزة الأمن سوف تلاحق شركات رامي مخلوف، الذي كان أكبر داعمي هذه الأجهزة؟". وأضاف: "طُلِبَ مني أن أتنحَّى جانباً"، ملتمساً "الإنصاف" من الرئيس الأسد.
تغييرات كبيرة داخل العائلة الحاكمة
وتشير النداءات غير المعتادة التي أطلقها مخلوف، الذي اعتُقِدَ سابقاً أنه لا يمكن المساس به بسبب صلاته العائلية، إلى التغييرات العميقة التي يجريها الأسد في هيكل سلطة العائلة، التي تنتمي إلى الأقلية العلوية، وهي الطائفة التي هيمنت على سوريا منذ أن اعتلى حافظ الأسد السلطة في العام 1970.
تقول لينا الخطيب، مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في معهد تشاتام هاوس، إنه رغم محاولة الانقلاب التي نظَّمها أخ حافظ الأسد في العام 1984، "لم تنشر العائلة الحاكمة في سوريا غسيلها القذر على الملأ بهذه الطريقة من قبل". وأضافت أن لجوء مخلوف إلى منصة فيسبوك يُظهِر أن "خطوط الاتصال المباشرة بينه وبين بشَّار الأسد لابد أنها قُطِعَت تماماً".
وتأتي الهجمات على الهيمنة المالية لمخلوف، الذي تُعد شركة سيريتل، شبكة المحمول الأكبر في سوريا، أضخم مشاريعه، بينما يصارع الأسد من أجل توطيد سلطته على الدولة التي اجتاحتها الحرب واقتصادها المُتداعي. ورغم أن التدخُّل العسكري الروسي والإيراني قد ساعد الأسد في استعادة السيطرة على 70% من الأراضي السورية، يسيطر المعارضون على جيبٍ في الشمال الغربي، ويعاني الجنوب الواقع تحت سيطرة الحكومة من الفوضى، ويعيش أكثر من 80% من السوريين في فقر.
هل يستطيع مخلوف تحدي الأسد؟
ومع أنه من غير المُرجَّح أن يتحدَّى مخلوف الأسد جدَّياً، فقد كشف النقاب عن "توتُّراتٍ داخل الدائرة الأعلى في وقتٍ تتقلَّص فيه الكعكة وتزداد فيه المنافسات والاتهامات حِدَّة"، حسبما قال إيميل حُكيِّم، مُحلِّل شؤون الشرق الأوسط بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، الذي أضاف: "مخلوف ليس مستشاراً أو ضابطاً، إنه ليس أقل من بشَّار إلا بدرجةٍ واحدة".
وقَّع الاتحاد الأوروبي عقوباتٍ على مخلوف، الذي اتَّهمته واشنطن باستخدام صلاته العائلية لمراكمة ثروة طائلة بالفساد، بزعم تمويله للجهود الحربية للنظام خلال الصراع المستمر منذ ما يقرب من عقد من الزمان. في حين أطلق عليه الاتحاد الأوروبي "الراعي الأكبر" لأجهزة الأمن السورية.
لكن كانت هناك بالفعل إشارات العام الماضي بأن قطب الأعمال، مخلوف، قد سَقَطَ بالفعل من دائرة الأسد المُقرَّبة. وفي ديسمبر/كانون الأول، جمَّدَ وزير المالية السوري أصوله وأصول شركة نفط خارجية مُسجَّلة في لبنان، مُوقَّعة عليها عقوبات أمريكية، بسبب رسومٍ جمركية غير مدفوعة. وأنكَرَ مخلوف لاحقاً أيَّ صلاتٍ تربطه بالشركة.
ثم في أبريل/نيسان، داهمت السلطات المصرية سفينة شحن تحمل مخدرات محشوَّة في عبوات حليب "ميلك مان" من سوريا -وهي علامة تجارية يملكها مخلوف. وفي منشورٍ على فيسبوك، أنكر مخلوف صلته بهذه الشركة أيضاً.
لكن الخطوة التي حفَّزَت مخلوف على الظهور على فيسبوك جاءت من وزير الاتصالات، الذي طالَبَ شركة سيريتل، الشهر الماضي أبريل/نيسان، ومنافستها الأدنى شأناً إم تي إن، بدفع 180 مليون دولار في الإجمالي كرسومٍ للرُخَص المُعاد تقييمها. ودافَعَت الوزارة عن القرار في بيانٍ بعد أن زَعَمَ مخلوف أن المبلغ المُطالَب به لا مُبرِّر له.
ومع غموض سياسات دمشق، لا يستطيع المُحلِّلون تحديد السبب الذي من أجله يُسدَّد كلُّ هذا الهجوم على مخلوف. غير أن الدولة السورية تعاني من ضائقةٍ مالية، وتنخفض قيمة عملتها المحلية، ويشتكي الكثير من رجال الأعمال من الجمارك، بينما تلاحقهم السلطات بسبب الضرائب المتأخِّرة والرسوم الأخرى.
في تلك الأثناء، تُجَرُّ موسكو، وهي الداعم العسكري الرئيسي للأسد، إلى مشاركةٍ طويلة الأمد في سوريا، التي يسودها ما أطلَقَ عليه دبلوماسيٌّ روسي سابق "فسادٌ متفشٍ".
نزاع داخل الطائفة العلوية؟
لكن ربما تعود جذور النزاع في عائلة الأسد إلى ما هو أعمق من ذلك، إذ أفاد مصدران على اطلاعٍ على ما يحدث داخل الدائرة الأقرب للأسد أن التوتُّر بين مخلوف و"السيدة الأولى" أسماء الأسد دام لسنوات. وتترأس أسماء الأسد أكبر منظمتيّ إغاثة في سوريا، وتصل إليهما عشرات الملايين من الدولارات في صورة "تمويلٍ إنساني دولي".
ورغم شجب الكثيرين لفساده المزعوم ودعمه للنظام، يحظى مخلوف بدعمٍ من قطاعاتٍ من المجتمع العلوي. وشدَّدَ مخلوف على أن مؤسِّسته وأعماله الخيرية تشهد نشاطاً في منطقة الساحل، وهي منطقة بها عدد كبير من السُكَّان العلويين. وفرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوباتٍ على منظمة البستان الخيرية لمخلوف، بسبب صلاتها المزعومة بالميليشيات الموالية للنظام.
وجادَلَت الخطيب بأن مخلوف استخدَمَ الفيديوهات لتصوير نفسه باعتباره حامياً للمصالح العلوية، فيما حذَّرَ بعض المُعلِّقين الموالين للنظام من أن خطواتٍ إضافية ضد مخلوف قد تتسبَّب في نزاعٍ بين العلويين.
وكَتَبَ شريف شحادة، العضو البرلماني السابق والموالي البارز للنظام، على فيسبوك: "لا تُعرِّضوا منطقة الساحل للنيران والحروب والدمار".
وقال مخلوف، الذي زَعَمَ أن أجهزة الأمن تستهدف موظَّفي سيريتل دون أن يُحدِّد أيَّ أجهزةٍ على وجه الدقة، مُوجِّهاً حديثه للأسد: "هؤلاء هم شعبك، وهم مخلصون لك".
لكن الأسد لم يرد علانيةً. وفي خطابٍ أُذيعَ يوم الإثنين 4 مايو/أيَّار، طَلَبَ الأسد من المسؤولين أن يوجدوا حلولاً لكبح الارتفاع الجامح في الأسعار وأن يضعوا حداً للفساد، لكنه لم يأتِ على ذِكر ابن خاله.