كانت الصراعات على أشدها.. الولايات المتحدة تُصعّد كما لم يتوقع أحد مع إيران، على أرض العراق المتناحرة. الأزمة الإنسانية تتفاقم في سوريا مع توالي القصف على المدنيين من قوات النظام وداعمه الروسي، يتبعه تدخل تركي هنا، وآخر هناك في ليبيا، حيث حرب أهلية أشد ضراوة تتداخل فيها قوى إقليمية عدة. وفاجعة في اليمن التي قتل الجوع أهلها قبل أن يقتلهم الرصاص، والمتحكمون في قواعد اللعبة لا تحركهم سوى المنافع الاقتصادية ومئات المليارات من مبيعات السلاح المتزايدة.
اشتعلت كل تلك الأوضاع معاً مع مطلع العام الجاري، وأشد المتشائمين -أو المتفائلين- لم يكن ليتوقع أن يصبح صفيح العالم أكثر سخونة مع جائحة صادمة أعادت تشكيل الكثير من الحسابات وأرجأت العديد من السياسات قسراً؛ خوفاً من الفيروس الغامض الذي لم يكن مميتاً بقدر ما كان كاشفاً ومُعرياً للأنظمة وقادتها الذين سارعوا بتحويل دفتهم نحو الجانب الطبي والعلمي لمجابهة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19).
هل يصبح العالم أكثر سلاماً أم أشد عنفاً؟ يضعنا هذا الوباء أمام وجهتي نظر تبدوان مختلفتين: الأولى أنه قد يصبح دافعاً أكبر نحو تعزيز السلام وتجنب الحروب والصراعات لما لها من كلفة اقتصادية وبشرية في سياق لا يحتمل مزيداً من الضرر، والأخرى أنه من المحتمل تحوله إلى محفّز لمزيد من الخلافات والاضطرابات.
نحو تعزيز السلام؟
"التفاؤل هو مقدمة حيوية للحرب، أي شيء يزيد من التفاؤل هو سبب للحرب، أي شيء يثبط هذا التفاؤل هو سبب للسلام". المورخ جيوفري بليني في كتابه (أسباب الحروب)
يرى بليني أن التفاؤل بالقدرة على تحقيق الأهداف عسكرياً هو المحرك الأول للحرب، بينما يكون التشاؤم مدعاة للاتجاه إلى طاولة المفاوضات والبحث عن السلام. عندما تكون القيادات في كلا الجانبين واثقة فإنها أكثر استعداداً لاتخاذ زمام المبادرة وأقل احتمالية للتفاوض، لأنهم يعتقدون أنهم سيخرجون بشكل أفضل من خلال القتال. وعلى النقيض يخدم التشاؤم السلام، حتى لدى أحد الأطراف يمكن أن يكون مفيداً، إذ سيصبح هذا الطرف أكثر ميلاً للتفاوض وحتى قبولاً لصفقة غير مواتية لتجنب الحرب.
إن تفاءلت وثقت وتحركت، وإن تشاءمت خِفت وتراجعت. غابت الجائحة عن تلك المعادلة التي أجبرت الجميع على التشاؤم بشأن نجاعة الحل العسكري في ظل تلك الظروف، على الأقل حتى انتهاء تأثير الوباء أو لعدة سنوات تليه.
يُبطئ المرض مسيرة الحرب، والنظرية بسيطة: الحرب تعتمد على الناس، وحين يمرضون لا يصبحون قادرين على القتال. في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى عانت الجيوش من أعداد من الإصابات بالأمراض أكثر من المعارك، قبل أن يخطو الطب العسكري خطوات هائلة لمواجهة ذلك. لكن الأوبئة لا تزال تهدد بالطبع الوحدات العسكرية، فالجنود دائماً معبئين معاً ما يجعلهم أكثر عرضة لخطر الإصابة، وهو ما تحقق، إذ تم اختبار مئات الحالات الإيجابية لفيروس كورونا على متن حاملات الطائرات الأمريكية والفرنسية، حتى إن الأولى توقفت عن الإعلان عن أعداد الجنود المصابين بعد تخطيها الألف.
رغم ذلك تظل القدرات المادية السبب الرئيسي لمنع الحروب أو على الأقل تأجيل تصعيدها، والسلاح الأفتك لذلك الوباء كان قدرته على شل معظم الاقتصاديات حول العالم، وتكبيد كبرى الشركات خسائر فادحة قد تُغرق الدول في الديون لسنوات عدة، ومن هنا فالنظرية بسيطة: بدون المال لن تُموّل الحروب، وبالطبع في سياق الجائحة ستتغير أولوية الإنفاق.
حتى بعد تطوير اللقاح وإتاحته على نطاق واسع، قد تستمر المشاكل الاقتصادية لسنوات. ستخرج الدول من هذه الأزمة بديون هائلة، ويقضون سنوات في دفع حزم الإنقاذ والتحفيز التي استخدموها لحماية المواطنين والشركات من العواقب الاقتصادية للتباعد الاجتماعي، ما يعطي سبباً إضافياً للتشاؤم بشأن استخدام الحلول العسكرية.
في مقاله على مجلة Foreign Affairs، حول إمكانية تعزيز الأوبئة للسلام، تساءل باري بوزين، أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج الدراسات الأمنية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إلى متى من المحتمل استمرار التأثير السلمي للتشاؤم، ويرى أنه إذا تم تطوير لقاح بسرعة، مما أتاح انتعاشاً اقتصادياً سريعاً نسبياً، فقد يكون المزاج السلمي قصير العمر.
ولكن من المحتمل أيضاً أن تستمر أزمة الفيروسات التاجية لفترة طويلة بما يكفي لتغيير العالم بطرق مهمة، ومن المرجح أن يحد بعضها من شهية الصراع لبعض الوقت، ربما لمدة تصل إلى خمس أو عشر سنوات. بعد كل شيء، يشهد العالم أكبر جائحة وأكبر انكماش اقتصادي منذ قرن. وقد اتفق مع ذلك المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي الذي يعتقد أنه كلما طال أمد الفيروس كان التغيير في النظام العالمي أكثر راديكالية وعمقاً.
على الأرجح ستحاول الحكومات والشركات تقليل اعتمادها على واردات المواد الهامة، بعد أن تعطلت سلاسل الإمداد العالمية أثناء الوباء. ستكون النتيجة تضاؤل التجارة الخارجية، وهو ما يراه البعض أمراً سيئاً. لكن على مدى السنوات الماضية، لم تساعد التجارة في تحسين العلاقات بين الدول، بل أدت إلى استياء وتنافر ومجاذبات جسدها، كمثال الصراع الصيني- الأمريكي.. قد تعني التجارة الأقل احتكاكاً أقل بين القوى الكبرى، وبالتالي تقليل شدة تنافسها، بحسب بوزين.
أما في السياق الصيني -وبعيداً عن تصعيد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لحسابات انتخابية- فيمكن أن تكون التجارة الأقل تأثيراً إيجابياً من خلال التركيز على تنمية الاقتصاد المحلي، الذي أثقلته الفواتير الضخمة لمكافحة الفيروس. قد لا يبدو ذلك ظاهراً في النهج الصيني الذي يحاول الاستفادة من الجائحة لتحقيق مكاسب سياسية. ولكن على الجانب الاقتصادي ومع اتضاح تأثير الفيروس على سياسات الدول فيما يتعلق بالتجارة الخارجية فلربما تدفع الخسائر الاقتصادية بكين إلى تأجيل مبادرة الحزام والطريق، وهو مشروع تجاري واستثماري طموح أقلق القوى الكبرى، وتعليق مثل هذا المشروع من شأنه أن يهدئ مخاوف أولئك الذين يرونها كأداة للهيمنة الصينية على العالم.
يضعنا هذا أمام احتمالية ليست قوية بقدر ما هي واردة: الكوارث البيئية قد تصبح محركاً للسلام. حدث ذلك في إندونسيا حين أضحت موجات تسونامي، التي ضربت إقليم آتشيه عام 2004، من العوامل التي سرّعت إحلال السلام بين حركة "آتشيه الحرة" الانفصالية والحكومة الإندونيسية بعد 30 عاماً من الصراع، وهو ما حاول أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة البناء عليه بدعواته لوقف إطلاق النار في مختلف أماكن النزاعات عالمياً.
في اليمن تجلت تلك الدعوة بوضوح بعدما أعلن التحالف بقيادة السعودية تمديداً لوقف إطلاق النار، من جانب واحد، لمدة أسبوعين، استجابة لطلب الأمم المتحدة خوفاً من عواقب انتشار الفيروس في البلد الذي لن يتحمل جائحة فيروسية تُضاف إلى الجوائح البشرية التي أصابته. وفي الفلبين دعا "جيش الشعب الجديد" (الجناح المسلح للحزب الشيوعي) إلى وقف لإطلاق النار، في إطار صراعه مع الحكومة الممتد منذ خمسة عقود، وهو ما تكرر في كولومبيا حين أعلن "جيش التحرير الوطني" (ميليشيات ثورية) وقفاً لمدة شهر.
وفي إدلب ها قد توقف القصف والقتال الذي أدى لنزوح الملايين مانحاً إياهم متنفساً لبعض الوقت على الأقل. أما نهج التصعيد العسكري بين الولايات المتحدة وإيران فخبا مع تفشي الفيروس بشراسة داخلهما. تظل الصورة غير وردية في ليبيا، حيث الصراع المسلح الوحيد تقريباً الذي لم يهدأ بسبب الجائحة، إذ يتواصل القتال بين قوات حكومة الوفاق المعترف بها دولياً بقيادة فائز السراج -والتي تحقق تقدماً على الأرض- و"الجيش الوطني الليبي" بقيادة خليفة حفتر. المساعي الأوروبية إلى هدنة بدأت في التحرك، وإن كانت تفتقد للتأثير الفعّال، لكن مع اتضاح صعوبة الحسم العسكري فلربما تأتي الهدنة مستقبلاً.
وعلى الرغم من أن الهدنات واتفاقيات وقف إطلاق النار تُمثل في كثير من الأحيان حجر أساس نحو السلام، لكنها لا تكفي وحدها لتحقيقه، إذ يتوقف الأمر على العديد من العوامل والتعقيدات المحركة للصراعات.
نحو مزيد من الاضطرابات؟
لن يصبح العالم مكاناً أكثر سلاماً وهدوءاً فجأة في أعقاب الجائحة، إذ قد تؤدي إلى اضطرابات اجتماعية واقتصادية في أكثر من مكان حول العالم، وتدفع بنحو 50 مليون شخص إلى الفقر المدقع بحسب تقديرات البنك الدولي. هذه التغيرات الاجتماعية ستصاحبها تغيرات مماثلة في سياسات الدول الخارجية التي قد يدفعها الخوف والقلق لاستدعاء قدراتها العسكرية والدفاعية، أو على الأقل الانغلاق على نفسها، ما يتيح تصاعد الخطابات القومية والعنصرية، وهو ما شهدنا بعضاً منه خلال الفترة الماضية.
ويعتقد الأمين العام للأمم المتحدة أنه "في بعض حالات الصراع قد يخلق عدم اليقين الذي أحدثته الجائحة حوافز لبعض الجهات الفاعلة لتعزيز مزيد من الانقسام والاضطراب. وقد يؤدي ذلك إلى تصاعد العنف وربما سوء التقدير المدمر، ما قد يزيد من ترسيخ الحروب الجارية ويعقد الجهود المبذولة". وأضاف أن الفيروس أعاق جهود حل النزاعات وتعثرت العديد من عمليات السلام، وقد أدى أيضاً إلى إثارة أو تفاقم العديد من التحديات في مجال حقوق الإنسان.
وقال الشهر الماضي: "نشهد خطاب كراهية، ودعاة سمو العرق الأبيض، ومتطرفين آخرين يسعون إلى استغلال الوضع. نشهد تمييزاً في الوصول إلى الخدمات الصحية، اللاجئون والمشردون داخلياً معرضون له بشكل خاص. وهناك مظاهر متزايدة من الاستبداد، بما في ذلك القيود المفروضة على وسائل الإعلام، والحيز المدني وحرية التعبير".
نعود إلى تشومسكي، الذي في نظره أن الإجراءات الاستثنائية التي تطبقها الحكومات من إغلاق للحدود الداخلية والخارجية، وحظر التجوال في بعضها، واستخدام الجيش في تطبيق إجراءات العزل، كما حدث أو يحدث في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا ودول أخرى عديدة قد تتسبب بتدهور الديمقراطية والنزوع إلى الاستبداد في كثير من مناطق العالم. وهو ما طرحه النموذج الشمولي الصيني من أسئلة حول مدى فاعلية الأنظمة الديمقراطية في مقابل نقيضتها.
وبحسب المفكر الأمريكي فإن الفيروس يحضرنا للوعي بالعيوب العميقة التي تواجهها البشرية "فالعالم معيب وليس قوياً بما فيه الكفاية للتخلص من الخصائص العميقة المختلة في النظام الاقتصادي والاجتماعي العالمي كله، واستبداله بنظام عالمي إنساني كي يكون هناك مستقبل للبشرية قابل للبقاء".
وفيما يخص الوعي بالعيوب العميقة التي تواجه البشرية، فإن أهم ما فعلته الجائحة أنها أعادت التفكير في السياسات والاستراتيجيات التي تحكم العالم. في أعقاب الحرب العالمية الثانية اتفق الحلفاء على توقيع ميثاق الأمم المتحدة، وتمكنت الأطراف المنتصرة من التوصل إلى اتفاق على الرغم من حقيقة أن وجهات نظرهم حول أهم القضايا الأساسية كانت مختلفة تماماً وكذلك متعارضة، وبذلك تمخض عنها نهج جديد في السياسات الدولية ودور متزايد للهيئة الأممية، قبل أن يعرف التراجع وينحصر خلال الأعوام الأخيرة.
وبالمثل، نحن على أعتاب لحظة تشكّل جديدة تطرح سؤالاً ناقشته مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، حول ضرورة إعادة التفكير في سياسات الأمن الدولي لعالم ما بعد الوباء، فالآن يترآى بوضوح أن العديد من الأدوات القديمة التي تشكلت بفعل عوامل مختلفة في الماضي لضمان الأمن عديمة الفائدة، وتستهلك فقط موارد ضخمة يمكن إعادة توجيهها لتطوير العلوم والتعليم والأنظمة الصحية.
يُظهر الفيروس أن أولويات التهديدات الأمنية العالمية تتغير بسرعة، ما يتطلب في مقابلها تغييراً جوهرياً في طرق الإدارة، فالإرهاب لم يعد الخطر الأكبر والتسليح لم يعد أولوية الدول، بعدما اتضح أن بيعه وشراءه غير قادر على مكافحة الأوبئة.
العالم يواجه "عدواً مشتركاً" لا يعرف الحدود ولا الجنسيات ولا الأيديولوجيات، ولن يُفرّق بين من يحمل السلاح لتحقيق مكاسب أو من يحمله دفاعاً عن قضية أو نفسه، فالجميع أمامه سيان. لكن المحتمل أنه تحت وطأة الشعوب التي أدركت هذا والقادرة على إحداث تغيير وضغط على الأنظمة (الديمقراطية) التي تحكمها قد نصبح على عتبة جديدة تتشكل بدلاً من المتهالك الذي قضّ مضاجعنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.