"فاطنة وعبغفور البرعي"، واحدة من أكثر قصص الحب الخالدة في تاريخ الدراما المصرية على مدار ربع قرن تقريباً. قصة حب كادحة بدأت من الصفر، وتحديداً من طبق كشري فاطمة وصبي وكالة البلح عبدالغفور، واستمرت دون أن تغيرها سنوات الصراع أو الملايين التي جنياها.
لكن لحظة، وأنت تتذكر معي طبق الكشري الذي يأكله نور الشريف (دور عبدالغفور البرعي) من يد عبلة كامل (فاطمة كشري)، وهو يردد "العدس متبقيش تسويه على الآخر، والرز تهويه شوية بعد متنزليه من على النار"، وترد عليه بنبرة غاضبة لا ينتبه لها: "طب والمكرونة؟"، فيذهب عنها الغضب وتشعر بالإطراء والخجل وهو يقول: "المكرونة عال العال"، هل يُمكن أن تراه طبق كشري من يد يسرا يأكله محمود عبدالعزيز؟
تعالَ نسترجع ذكريات من 24عاماً مضت، ونخبرك بعض أسرار المسلسل لن أعيش في جلباب أبي الذي لا يمل جيلا الثمانينيات والتسعينيات من مشاهدته:
قصة المسلسل: بُنيت على رواية نهايتها "ستعيش في جلباب أبيك"
لمن لا يعرف، المسلسل الذي كتب السيناريو والحوار له الكاتب مصطفى محرم بُني على رواية تحمل الاسم نفسه للروائي المصري الراحل إحسان عبدالقدوس، وأنتجها اتحاد الإذاعة والتلفزيون مسلسلاً بعد 6 سنوات من رحيله، وتحديداً عام 1996، وكان لهذا المسلسل الذي أخرجه الممثل والمخرج أحمد توفيق أصداء واسعة في مصر والدول العربية.
تدور أحداث المسلسل في حلقاته الـ36، حول قصة صعود عبدالغفور البرعي من وكالة الحاج إبراهيم سردينة (عبدالرحمن أبوزهرة) إلى أن يكون عمله الخاص ويجني ثروة منه، بفضل تبني الحاج إبراهيم سردينة له لإخلاص عبدالغفور في عمله، فأطلعه على كل أغوار المهنة، حيث خرج بدور الرجل الخبير ببواطن الأمور، ولم ينسَ عبدالغفور فضل "المِعَلم والمُعلم" عليه حتى بعد استقلاله عنه وتكوينه عمله الخاص بمساعدة سيد كشري (مخلص البحيري) الشقيق الوحيد لفاطمة، وفهيم أفندي (فاروق الرشيدي).
بينما يخطو عبدالغفور خطواته الأولى كصبي في وكالة البلح يعجب بفاطمة، بائعة الكشري التي تعمل بنفس منطقة الوكالة وتبادله الإعجاب، وتمر الأيام ويتزوجا وينجبا ولداً وحيداً يسميانه عبدالوهاب (محمد رياض)، وأربع فتيات، سنية (ناهد رشدي)، وبهيرة (وفاء صادق)، ونفيسة (منال سلامة)، ونظيرة (حنان ترك).
فكرة المسلسل بأكملها تدور حول الابن الذي يرغب في بناء كيانه بعيداً عن ثروة والده، لكن في النهاية يعود إلى جلباب أبيه بعد عدد من التجارب التي لم يوفق بها، كما أظهر المسلسل كيف طاردت "لعنة الثروة" بناته أيضاً اللاتي أدخلت بعضهن في زيجات فاشلة من طامعين في ثروة أبيهن.
لكن أدوار البطولة كانت مرشحة لآخرين
رشحت يسرا ومعالي زايد لتأدية دور فاطمة، فيما رشح محمود عبدالعزيز لتأدية دور عبدالغفور، أما دور المعلم سردينة فرشح له حسن حسني، والابن عبدالوهاب رشح له خالد النبوي ومحمد نجاتي، حتى المخرج والسيناريست أنفسهما لم يكونا المرشحين الأوائل للعمل، فرشح له أولاً المخرج محمد شاكر، لكنه اعتذر مفضلاً التركيز على إخراج الإعلانات، وفقاً لما ذكره السيناريست مصطفى محرم في كتابه "حياتي في التلفزيون" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، والذي نقلت صحيفة "مصراوي" مقتطفات منه.
السيناريست والمخرج لم يكونا أول من يرشح للعمل
روى محرم في مذكراته أن المنتجة ناهد فريد شوقي اتصلت به لتحويل رواية إحسان عبدالقدوس لسيناريو وحوار، لأنه كتب حوارات لأكثر من عمل لإحسان عبدالقدوس مثل "الراقصة والطبال"، و"أرجوك أعطني هذا الدواء"، و"يا عزيزي كلنا لصوص"، و"انتحار صاحب الشقة"، و"حتى لا يطير الدخان"، وبالفعل ذهب وقتها لوزير الإعلام وقتها صفوت الشريف، ورئيس قطاع الإنتاج ممدوح الليثي، للحصول على الموافقة.
وللمفارقة، فمحرم نفسه تردد في الموافقة، واعتذر في البداية لأنه لم يرَ أن قصة ابن رجل ثري يسافر لأمريكا هرباً من شهرة أبيه لن تصلح لتكون الحدث الرئيسي للقصة وأن تفرد في 30 حلقة، كما خشي منافسة أسامة أنور عكاشة الذي كان يتربع على عرش الدراما التلفزيونية، بينما كان هو يتربع على عرش السينما، لكن إصرار ناهد فريد شوقي شجعه على كتابة الحوار.
بعد موافقة محرم، رشح زوج شقيقة زوجته المخرج أحمد توفيق لإخراج المسلسل في تردد بسبب حساسية صلة القرابة، وبالفعل تحمست المنتجة المنفذة للعمل وأسندت له المهمة بعد رفض شاكر.
البطولة المطلقة الأولى لعبلة كامل
أما بالنسبة للأبطال، فالترشيحات سابقة الذكر كانت ترشيحات مبدئية من ناهد، لكن كان لمحرم وتوفيق آراء أخرى، إذ فضل المخرج الاستعانة بعبلة كامل لملامحها المصرية، لكن محرم رأى أن أعمالها السابقة ليست كافية لتحصل على أول بطولة مطلقة لها، لكنه اقتنع بعدما رأى تأديتها الدور، ولاقتناعه أيضاً أن يسرا غير مناسبة للدور لأنها، "لو تواجدت في الحارة لتهافت الناس على الارتباط بها". وكان هذا أول عمل يجمعها مع نور الشريف منذ عام 1989 بعد فيلم "صراع الأحفاد".
موافقة نور الشريف غيَّرت في الرواية الأصلية
فيما أقنع محرم المنتجة المنفذة بأن نور الشريف الأنسب لدور الأب أكثر من محمود عبدالعزيز، لكن نور الشريف لم يقتنع بالسيناريو الأول القائم على الرواية، لذلك عدل محرم رواية عبدالقدوس ووضع قصة صعود وكفاح الأب التي في بداية المسلسل، وعندها وافق على الدور.
أدوار أخرى رُشح لها آخرون
أما بالنسبة لدور المعلم سردينة، فرشح له حسن حسني، لكن الدور لم يسند له بسبب "مبالغته في الأجر"، وفقاً لمحرم الذي كان يرى الدور صعباً على عبدالرحمن أبوزهرة، إلا أن توفيق أقنعه وقال له نصاً: "أبوزهرة على ضمانتي"، كذلك رشح محرم، الممثل فتوح أحمد لدور سيد كشري، لكنه اعتذر لذهابه للعمرة، فحصل على الدور مكانه مخلص البحيري.
تكلفة الإنتاج
بعد اختيار الشخصيات حدد قطاع الإنتاج باتحاد الإذاعة والتلفزيون سعر الساعة التلفزيونية في هذا الوقت، بمبلغ 55 ألف جنيه، تُخصم منها 5 آلاف جنيه رسوم دمغات ومصاريف ليكون صافي الساعة التلفزيونية 50 ألف جنيه.
كواليس العمل
ابنة فاطمة كشري أكبر منها
هناك مفارقة لطيفة أيضاً في المسلسل، سنية، ابنة فاطمة كشري هي في الحقيقة أكبر عمراً من والدتها، إذ إن الفنانة ناهد رشدي من مواليد 1956، أما عبلة كامل فمن مواليد 1960، أي أنها أكبر منها بـ4 سنوات، لكنها نجحت في تأدية دور الابنة.
الأكل طُبخ في بيوت الفنانين، ويأكلونه بعد التصوير
مشاهد الأكل المنزلي كانت حقيقية، وطبخ في منازل الفنانين وأكلوه بعد التصوير، وقد أثنى رياض في حوار سابق مع صحيفة "الوطن" على مذاق طعام الفنانة عبلة كامل.
فيما تحدثت الفنانة وفاء صادق، التي لعبت دور أخت سنية، أن بعض المشاهد صوِّرت بطريقة طبيعية جداً واندمجوا في الشخصيات، منها مشهد فرح سنية، حيث كانوا يأكلون بنهم مبالغ حقيقي.
فتحية هي من حرصت على إظهار الفارق الاجتماعي
الفنانة سهير الباروني ظهرت في دور فتحية، السيدة الفقيرة التي تدفع زوجها سيد كشري للبحث عن الثراء بدق باب أخته فاطمة زوجة الرجل الثري، وأتقنت تمثيل دور السيدة الشعبية الفقيرة رغم أنها في الحقيقة من طبقة اجتماعية عالية، وكانت تحرص في كواليس العمل على المرور على غرف الفنانين قبل المشهد وتعطيهم إكسسوارات من شأنها توضيح الفارق الاجتماعي بين عائلتي الوزير من جهة وعائلة عبدالغفور البرعي من جهة أخرى، وفق شهادة الفنانة وفاء صادق (بهيرة).
اختلافات عن الرواية الأصلية
كما ذكرنا، فإن نور الشريف هو من طلب إبراز دوره أكثر، لذلك ركزت الخمس حلقات الأولى من المسلسل على إبرازه كبطل للقصة، في إضافات لم توجد بالرواية الأصلية، كما ألغيت شخصية الابن الثاني لعبدالغفور البرعي في الرواية، وهو عبدالستار.
إذ ركز المسلسل على ابن وحيد وهو عبدالوهاب الذي يفشل في غربته بأمريكا ويعود للعمل مع والده. لكن في الرواية نجح الابن الثاني عبدالستار في العيش في بريطانيا بمفرده دون الحاجة لمساعدة والده، كذلك في الرواية لا يوجد أصل لعائلة سيد كشري والحاج إبراهيم سردينة.
كذلك، الرواية أخذت على لسان حسين صديق عبدالوهاب، الذي يحب شقيقته الصغرى نظيرة، وشخصية حسين هذه هي في الحقيقة شخصية الصحفي محمد عبدالقدوس، وهو ابن الكاتب إحسان عبدالقدوس.
ترند لا يتوقف: "فرح سنية، وطبق كشري فاطنة، وحيرة عبغفور"
العام الماضي، نشر حساب "جوجل بالعربية" على تويتر تغريدة ترويجية له بروح الترند المتصدر من وقتها التي حولت شخصيات المسلسل إلى "ميمز" على الإنترنت. هنا نجد حيرة عبدالغفور البرعي تشبه حيرة شخص يبحث عن معلومة قبل إطلاق محرك البحث جوجل عام 1998.
وبذكر الميمات، المسلسل نُشرت حلقاته كاملة على قناة "عرب دراما" على يوتيوب في مارس/آذار 2019، ومن وقتها شوهدت الحلقات مئات آلاف المرات، فالحلقة الأولى وحدها حصدت أكثر من مليون و220 ألف مشاهدة، واستمر متوسط المشاهدات نفسه تقريباً، ليصل إلى مليون و158 مشاهدة بالحلقة الأخيرة.
وربما لنشره على يوتيوب علاقة بعودة ظهور شخصياته كميمات على الإنترنت، واستعادة رواد الشبكات الاجتماعية ذكرياتهم مع المسلسل واللقطات الأفضل بالنسبة لهم، مثل طبق كشري فاطمة، أو الحكمة اللامتناهية للحاج إبراهيم سردينة، أو فرح سنية، أو لحظة عودة عبدالوهاب للعمل مع والده. وذلك لأن المسلسل استطاع تمثيل البيت المصري ببساطته ومشاحناته اليومية وأصالة شخصياته التي تمثلت في العطاء والتضحية وحفظ الجميل.