"علّوا البيارق علّوها وغنّوا للعيد.. ضوّوا الشوارع خلّوها تغني من جديد"، حيث كان لبنان يعيش أجواء رمضان في عتمة الليل في ذلك الوقت.
ففي منتصف الثمانينات كان لون السماء رمادياً بفعل الحرب الأهلية اللبنانية (الفترة بين 1975: 1990)، فاختار المغني اللبناني أحمد قعبور أن يستقبل رمضان بأغنية تعيد أجواء العائلة وتجمع الإفطار والسحور التي افتقدها لبنان لسنوات، واستعان بأصوات الأطفال البريئة من دار الأيتام الإسلامية في بيروت لتخرج أغنية مليئة بالحب والفرح.
الأغنية التي غنيت قبل 34 عاماً (أصدرت بالعام 1985)، عمرها أكبر من ذلك، وتحديداً من طفولة الفنان اللبناني، فبالنسبة له الأغنية هي أفراد عائلته وذكرياته معهم، فيحكي أنه في طفولته كان يحلم بأن يشارك عائلته السحور ليقضي اليوم صائماً، ووعده جده خليل بأن يفعل، لكنه أطفأ المنبه أثناء نوم حفيده كي لا يستيقظ، لكن صوتاً آخر أيقظه؛ صوت المنادي يردد: يا نايم وحد الدايم، ووجد في الصوت فرحة وجمالاً، لذلك عندما قرر غناء الأغنية وجد أن الأطفال هم الأقرب للتعبير عن هذه الذكريات المرتبطة برمضان.
حناجر الأطفال البريئة غنَّت معه الأغنية التي تردد صداها في طرابلس والجبل والبقاع وأنحاء لبنان شتى، ورددوا: "علوا البيارق علوها وغنوا للعيد.. ضوّوا الشوارع خلوها تغني من جديد"، حيث رفع الأطفال أعلاماً ملونة بكل ألوان الطيف لتلوين سماء لبنان بالألوان، بينما كانت البلاد تقبع في الظلام بسبب انقطاع الكهرباء في إثر الحرب.
ورغم أن الأغنية للأطفال فإن قعبور كان متحمساً لها بدرجة أكبر من مجرد كتابتها وتلحينها، فقد كان مندمجاً معهم طوال الوقت، وشاركهم كثيراً من الأوقات الإنسانية، بل الغناء الجماعي.
وبعد 34 عاماً تذكر فاروق الكوسا، أحد أطفال دار الأيتام الذين شاركوا في الأغنية، أيام طفولته وكواليس اختيار قعبور له ضمن الكورال الغنائي من ضمن عشرات الأطفال، والتدريبات المكثفة من الفنان اللبناني ليؤدوا الأغنية بهذا الاندماج الواضح، وتأثيرها فيهم وفي المجتمع وقتها بسبب الظروف المحيطة بإطلاقها.
الأغنية أبطالها أطفال دار للأيتام
بخصوص اختيار هذه الأصوات البريئة، يروي قعبور في فيلم وثائقي قصير على قناة "الجزيرة الوثائقية" أن الدار رحبت بالفكرة، وأحضرت له 200 طفل ليختار الأصوات المناسبة، رغم أن استوديو التسجيل لم يكن يتسع سوى لـ10 أفراد.
عندها، بدأ قعبور في التعرف على الأطفال بمشاركتهم الإفطار والسحور، إذ تعرف على أسمائهم ومناطق ميلادهم وظروفهم الاجتماعية وعرف الكثير عنهم، قبل أن يستقر في النهاية على اختيار الصوتين المناسبين لغناء المقاطع المنفردة بالأغنية؛ فاروق وهنادي.
دار الأيتام كانت تُنتج بشكل دوري أغاني لإحياء المناسبات الدينية والوطنية، لكنه مع هذه الأغنية أراد إطلاق أغنية منفردة لا تكون دينية، بل شعبية تظل خالدة كل رمضان، إذ قال المدير العام السابق لمؤسسة الرعاية الاجتماعية محمد بركات في الفيلم الوثائقي نفسه إنه أراد جعلها خالدة بإعادة عرضها كل عام في الاحتفال السنوي برمضان.
الأغنية لعائلة قعبور وعائلات لبنان
كلمات الأغنية مرتبطة بالفنان الذي غنّى للأرض والمقاومة وفلسطين مراراً، إذ تُغنى بعض مقاطع الأغنية لعائلة القعبور خصوصاً، وعائلات لبنان عامةً، إذ تحث كلماتها على إحياء أجواء العائلة الدافئة والفرحة في رمضان.
كذلك لم ينسَ قعبور قطّ كل المرات التي لم يوقظه أحد لتناول السحور، فرغم صغر سنه كان يحب أن يشارك عائلته الأجواء الرمضانية التي تشبه العيد. ومثله مثل الأطفال جميعاً كانوا مولعين بتقليد الكبار وصيام رمضان رغم صغر سنه، وقد سجل ذلك بكلمات الأغنية التي تقول:
"إم أحمد تروّق بالها وأبو أحمد يرقص كرمالها
والحجّة تزغلط زغلوطة توصل لبعيد
ولا مرة إمي وعّتني حتى إتسحر
كل مرة بيمرق رمضان وبتقلي صغير
أنا حابب شوفك يا مسحّر وطبّل عطبولك
أنا حابب إكبر وإتسحر بليالي العيد
علوا البيارق.."
كما لم ينس مرات أخذ جده المنبه من جواره وهو نائم، وفضل المسحراتي في إيقاظه بدلاً من المنبه، وإيقاظ جموع الناس وإيضاء المدينة في ليالي الشهر الفضيل، كما يرى أن معنى الاستيقاظ أعمق؛ يهدف لتوعية الإنسان وإزالة العتمة عن النفوس في ظل الأجواء القاتمة وقتها، إذ تقول الكلمات:
"أنا ياما عيّرت الساعة ونيّمتها حدّي
ويقرب مني على غفلة وياخدها جدّي
يالله وعِّيني يا مسحر بصوتك ناديني يا مسحر
علِّمني أضرب عالطبلة ومن بعدك عيد
يا نايم وحّد الدايم يا نايم وحّد الله
مرحبا يا مسحِّر يا مرحبا
المدينة عَصَوْتَك عم بتشرّع أبوابها
وعّي أهالينا.. ضوي ليالينا"
بالنسبة لقعبور، كانت هذه الوصفة السحرية لنجاح الأغنية، فالنص والكلمات من واقع المجتمع، والموسيقى كانت عاملاً لنجاحها، لكن صنعها بكثير من الحب والشغف والإحساس منه في التأليف والتلحين، ومن الأطفال في الأداء والغناء كان عامل النجاح الأكبر للأغنية، بدرجة لم يتوقعها حتى مدير دار الأيتام بأن تلقى هذا الانتشار الذي يجعلها من الأغاني المرتبطة في أذهان أبناء لبنان وبعض الدول العربية باستقبال رمضان والعيد، والحنين لأيام الطفولة.