يبدو أن قصة تهاوي أسعار النفط ستظل مستمرة مدة أطول مما توقع البعض، فعلى الرغم من اتفاق التخفيض القياسي لا تزال الأسعار تواصل الهبوط، ما يعني أن الخاسرين من الكارثة التي ضاعفها تدني الطلب بفعل وباء كورونا لن يتمكنوا قريباً من التعويض، والسؤال الآن من هم الرابحون من هذا الانهيار؟
مشاكل التخزين تفاقم الأزمة
اليوم الإثنين 27 أبريل/نيسان واصلت الأسعار انخفاضها، وسط مؤشرات على امتلاء طاقة التخزين العالمية سريعاً وقادت الخسائر العقود الآجلة للنفط الأمريكي، والتي انخفضت أكثر من دولارين للبرميل بسبب المخاوف من قرب وصول طاقة التخزين في مركز كوشينج في أوكلاهوما للطاقة القصوى.
وارتفعت مخزونات الخام الأمريكي إلى 518.6 مليون برميل في الأسبوع المنتهي في 17 أبريل/نيسان مقتربة من مستواها القياسي على الإطلاق عند 535 مليون برميل الذي سجلته في عام 2017.
ونزلت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط الأمريكي لشهر يونيو/حزيران 2.05 دولار أو 12.1% إلى 14.89 دولار للبرميل بحلول الساعة 06:38 بتوقيت غرينتش، بينما انخفض خام برنت 1.08 دولار ما يعادل 5% إلى 20.36 دولار للبرميل.
وسجلت التعاملات الآجلة على النفط خسائر للأسبوع الثالث على التوالي الأسبوع الماضي، وانخفضت في ثمانية من الأسابيع التسعة السابقة. وأنهى برنت الأسبوع منخفضاً نحو 24% وفقد خام غرب تكساس 7%، وامتلأت 70% من طاقة التخزين بمركز كوشينج وهو نقطة تسليم خام غرب تكساس الأمريكي بحلول منتصف أبريل/نيسان. ويقول متعاملون إن الطاقة المتاحة مستأجرة كلها بالفعل.
ومع انتهاء عقود يونيو/حزيران الخاصة بخام برنت يوم الخميس القادم 30 أبريل/نيسان، من المتوقع أن تشهد أسعار برنت انخفاضاً أكثر في الأيام الثلاثة الماضية، وليس مستبعداً أن نشهد ساعات درامية أخرى تضاهي ما شهده خام غرب تكساس الأمريكي يوم الاثنين الماضي 20 أبريل/نيسان عندما انهارت الأسعار حتى سالب 37.63 للبرميل بسبب مشكلة التخزين.
ما مشكلة تخزين النفط؟
السؤال يتردد بالفعل عبر منصات التواصل الاجتماعي مؤخراً بعد أن أصبحت أسعار النفط مادة للسخرية، وبصفة خاصة بعد ما حدث الإثنين الماضي، لكن تخزين النفط الخام ليس بالبساطة التي قد يتصورها البعض، فالتخزين في صهاريج أرضية يتطلب استثمارات ضخمة لا تتوافر لأفراد، إضافة لمتطلبات تتعلق بإجراءات السلامة وتوفر وسائل النقل وأمور أخرى كثيرة.
فأحد أهم الصعوبات أمام إنشاء صهاريج تخزين النفط الخام تتعلق بقضية الصحة والسلامة والبيئة، حيث يجب ضمان تخزين المنتجات ومعالجتها بصورة آمنة تضمن عدم وجود تسريبات وغير ذلك ما قد يؤدي لتدمير التربة أو السطح المائي الجوفي، وكلها أمور تتطلب استثمارات هائلة وليست مضمونة العائد؛ فالطبيعي بالنسبة للنفط الخام أنه لا يحتاج لتخزين تجاري، بمعنى أن المشترين للنفط يوقعون عقوداً آجلة تسمح ببيعه للطرف الذي سيتسلمه مباشرة عندما يحين الموعد.
الظرف الحالي إذاً استثنائي ولا يتكرر كثيراً، ولم يتكرر أصلاً من قبل بهذا الحجم من الوفرة في النفط الخام الذي يحتاج للتخزين بفعل تدني الطلب جراء جائحة كورونا من ناحية وحرب الأسعار التي أشعلتها السعودية بعد الخلاف مع روسيا من ناحية أخرى.
وتنقسم ملكية مستودعات النفط إلى ثلاث فئات أساسية؛ ملكية فردية لشركة نفط، أي أن تمتلك شركة نفط المستودع وتقوم بتشغيله بمعرفتها، وهذه النوعية من المستودعات لا تكون ضخمة أو سعتها كبيرة وتستخدم بالأساس كنقطة تسليم وليست مستودعات تخزين بالمعنى الشائع، والفئة الثانية تكون ملكيتها مشتركة أو اتحادية، حيث تمتلك شركتان أو أكثر مستودع النفط معاً وتتشاركان في تكلفة التشغيل.
أما الفئة الثالثة فهي الملكية المستقلة، حيث لا يمتلك المستودع أياً من شركات النفط ولكن يمتلكه شركة منفصلة تمنح شركات النفط وغيرها نفقات حفظ المنتجات ومعالجتها، وتعتبر شركة فوباك الملَكية الهولندية أكبر شركات التشغيل المستقلة العاملة في مجال التحميل، وهذا علاوة على 80 شركة تحميل منتشرة في 30 دولة.
أما بشأن الدول التي تمتلك مستودعات لتخزين النفط فتأتي الولايات المتحدة الأمريكية على رأس تلك الدول حيث تمتلك صهاريج أرضية ضخمة يوجد فيها ما يعرف باسم الاحتياطي الاستراتيجي من النفط وترجع فكرته وتأسيسه إلى أزمة النفط عام 1973 وصاحبها هو وزير الخارجية وقتها هنري كيسنجر.
واليابان، ثالث أكبر مستهلك للنفط في العالم، لديها أيضاً أماكن تخزين محلية تكفي 113 يوماً من طلبات الوقود وذلك المخزون محفوظ بعناية الحكومة، فضلاً عن كمية تكفي 85 يوماً يتم تخزينها برعاية القطاع الخاص.
الرابح الأكبر من انهيار الأسعار
وحتى تكون الصورة واضحة دون الدخول في تعقيدات اقتصادية أو مصطلحات لا يفهمها إلا متخصص، نجد أن انهيار صناعة النفط لا تضر فقط من يعملون في إنتاج النفط الخام بشكل مباشر رغم أننا نتحدث عن ملايين العاملين وعشرات الآلاف من الشركات، فقطاع النفط في الولايات المتحدة الأمريكية فقط يعمل فيه 10 ملايين شخص، لكن هناك أيضاً قطاعات مرتبطة بإنتاج النفط تأثرت بشدة وأفلس كثير منها أو أوشك.
التداعيات طالت كثيراً من القطاعات مثل الأعمال التي تقوم بتصنيع المعدات التي تستخدمها شركات إنتاج النفط مثل الحفارات وشركات الصلب التي تصنع الأنابيب وكذلك البنوك التي أقرضت شركات الإنتاج مليارات الدولارات وهبطت أسهمها في البورصات بصورة كبيرة مع انهيار أسعار النفط.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية فقط نجد أن شركات الإنتاج مدينة بـ86 مليار دولار لابد من تسديدها بين هذا العام وعام 2024، إضافة إلى أكثر من 123 مليار دولار أخرى على شركات تشغيل خطوط أنابيب نقل الخام النفط أن تسددها خلال نفس الفترة، بحسب تقرير لموديز.
وتراكمت التكاليف على كاهل المنتجين المحليين في الولايات المتحدة، فمع الأخذ في الاعتبار تحمل تكلفة إغلاق بئر، سيكون على الشركة المنتجة دفع تكلفة أيضاً للتخزين.
ولا توجد توقعات إيجابية بشأن الطلب على النفط في الوقت الحالي بسبب استمرار أزمة فيروس كورونا، وذلك بالتزامن مع توقعات وكالة الطاقة الدولية وإدارة معلومات الطاقة باستمرار النمو في إنتاج الخام الصخري الأمريكي نتيجة الاستثمارات من البنوك.
جميع الأطراف وقطاعات الاقتصاد إذاً تخسر بفعل مذبحة النفط، باستثناء شركات تشغيل ناقلات النفط وأصحاب صهاريج التخزين التجارية؛ فإيجار ناقلة النفط قفز من 15 ألف دولار في اليوم -في المتوسط- قبل عامين فقط إلى متوسط 100 ألف دولار في مارس/آذار الماضي، بحسب تقرير لصحيفة نيويورك تايمز.
وارتفعت أسعار التأجير بصورة قياسية مرة أخرى في أبريل/نيسان الجاري لتصل إلى أعلى مستوياتها، وهو 350 ألف دولار لليوم الواحد، في وقت يتدافع فيه التجار لإيجاد مساحة للنفط الخام الذي لا يمكن بيعه لمصافي التكرير، بحسب تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية الأربعاء الماضي 22 أبريل/نيسان.
ويقدر خبراء الشحن والنقل البحري أن 60 ناقلة عملاقة قد تم استئجارها لتخزين النفط، معظمها قبالة سواحل سنغافورة وساحل الخليج الأمريكي، فضلاً عن عدد من الناقلات الأصغر حجماً.
الشركات التي تمتلك ناقلات نفط عملاقة خارج الخدمة لأنها قديمة ولم تعد تستخدم لأنها لا تصلح، قامت بإعدادها كخزانات عائمة مقابل مئات الآلاف من الدولارات، وهي أرباح لم تكن في الحسبان بالطبع، كما أن تكاليف شحن النفط الخام ارتفعت بمعدلات كبيرة بلغت 678% في شهر واحد إلى 175 ألف دولار في اليوم لشحن الخام من الشرق الأوسط إلى آسيا وذلك خلال مارس/آذار، مع ارتفاعات أكثر خلال أبريل/نيسان الجاري ستظهر بدقة مع ظهور تقارير الشهر خلال أسبوع، وهو ما يعني تحقيق شركات إدارة الشحن أرباحاً هائلة.
وفي ظل الوفرة الكبيرة في المعروض، حذرت شركة "أويل إكس" من أن حجم الخام المخزن حول العالم قد يصل إلى مليار برميل، فيما أشارت "رويترز" قبل ثلاثة أسابيع إلى أن نحو 80 مليون برميل وربما أكثر من 100 مليون برميل خزنت على ناقلات عائمة، ووصل الرقم إلى أكثر من 160 مليون برميل قبل نحو أسبوع، بحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.