ربما القناعة وربما الرضا أو الإجبار وأشياء أخرى، كلها تفاصيل قد كان لها دور عظيم في تغيير بيئتي الدينية بعد أن انتقلنا للعيش في النرويج منذ ثلاث سنوات، البيئة التي تبدلت من حولي دون إرادة مني، فوقفت برهةً أنظر مِن حولي دون أن أفهم شيئاً، إنه رمضان، رمضان العائلة، رمضان الزينة والأضواء، رمضان المسحراتي ورمضان مدفع الإفطار، فكّرت مليّاً في هذه الأشياء التي فقدتها وهي تعني لي الكثير، فشعرت بأني فقدت هويتي التي لطالما تمسكت بها، لكنها اليقظة السريعة، أو ربما الصحوة العميقة، ليعود ذهني إلى صوابه، إنه رمضان الله، رمضان العبادة، رمضان التسامح، رمضان السحور، رمضان الإفطار، فرمضان لا يقتصر على الزينة والمسحراتي والمدفع، إنها تفاصيل جميلة قد يكتمل جمال رمضان بها لكنه لا يفقد جماله دونها أيضاً، فلرمضان غاية أخرى وقيمة ذهبية لا تفقِدها هذه التفاصيل.
ومنذ ذلك الحين وأنا قد قطعت عهداً على نفسي بألا يأتي رمضان إلا ونستقبله بأحلى حُلَّة، فإننا وبحكم أننا نعيش في شمال أوروبا فرمضان هنا غريب بعض الشيء، تراه يأتي متنكراً متخفياً، لا يستطيع أن يظهر بحقيقة جماله كما في الدول العربية.
ثلاثة أعوام ونحن دوماً نتجهز لرمضان كما يتجهز المرء لحفل تكريمه؛ تنظيف المنزل قبل أيام قليلة حتى نتفرغ في رمضان لأشياء أخرى ويكون المنزل في أبهى شكل، ونزين غرفة الجلوس ونُخرج حبال الإضاءة من صندوق التخزين لنضعها على أسوار المنزل وشرفته ونوافذه، فيعلم كل من في الحي، أن رمضان يقطن هناك في ذاك المنزل -أي دارنا- المتربع على تلك التلة الصغيرة.
صلاة الجماعة هي إحدى الشعائر الدينية التي نعظِّمها في شهر رمضان المبارك برفقة أبنائنا الصغار، لا سيما أن رمضان هذا العامجاء عظيماً جداً، فرغم سوء الحال، فإنه منح المسلمين فرصة عظيمة، فرصة التفكر في جوهر هذا الشهر بعيداً عن قضائه في تحضير العزائم والموائد الفاخرة وإنفاق كثير من الأموال في سبيل تحضير مائدة تليق بمقام الضيف المدعوّ.
هنا في أوروبا، رمضان شهر عمل وامتحانات، لا صوت لإمساكه ولا نداء لإفطاره، رمضان هنا صامتٌ ساكنٌ لا تشعر به ما إن وطئت قدمك خارج المنزل، تراه صغيراً متقلصاً منعزلاً في منزلك ينتظرك وحيداً في الدار بينما أنت تنغمس في عملك خارجاً، وتعود إليه في آخر النهار، تراه يوماً طويلاً مُملاً تبلغ ساعات صيامه ثماني عشرة ساعة تقريباً، تمضيه جائعاً منفرداً لا يربطك الشعور بأي جماعة، لكن وبعد أن قطعنا ذاك العهد على أنفسنا وعلى صغارنا بات رمضان مختلفا تماماً.
ثلاثة أعوام ورمضان أشبه برجلٍ لطيف ينتظر قدومه أطفالي، متسائلين أحياناً: أين هو رمضان؟ أين وصل رمضان؟ متى يصل إلى حيينا؟ إنهم ينظرون إليه على أنه أحد مخلوقات الله اللطيفة رغم إدراكهم حقيقة ماهية هذا الشهر، لكنه الحب أو الإيمان أو ربما الطمأنينة لرمضان إن صح القول.
أما رمضان هذا العام وبسبب فيروس كورونا، فلن يكون كأعوامي الثلاثة الماضية في النرويج، ولن نستطيع كذلك أن نحتفل بعيد الفطر كما جرت العادة، إذ إننا اعتدنا إقامة حفل جميل بعد كل رمضان وندعو فيه الجميع دعوة عامة ومجلس البلدية وإدارة جمعيات الحي دعوة خاصة ليشاركونا فرحتنا ويتعرفوا بذلك على شعائرنا وطقوسنا الدينية.
لكن الشعائر الإسلامية المقدسة تعد مسؤولية عظمى أمامنا، إذ إنها الأمانة التي حملناها على أكتافنا حينما حملنا عتادنا وقررنا الهجرة بعيداً عن الوطن.
وأما عن أولادنا فهم الأمانة الأعظم؛ لذلك يترتب علينا أن نمنحهم من متعة رمضان ما نلناه نحن في صغرنا، أن نصنع نحن العائلة، وأن يصدح الأذان في قصرنا الصغير، وأن تعلَّق الأضواء في ممرات المنزل، وأن تصلَّى الجماعة في زاوية مخصصة للعبادة، فنصنع مُصلانا الخاص، وأن نهيئهم جداً لقدوم العيد بحلواه وهداياه وصباحه المبارك بعد شهر مبارك وكريم بعون الله.
وهذا ما فعلتُه هذا العام مع أطفالي، فقمنا معاً بتزيين بيتنا بهلال كبير، ووثقنا ما فعلناه بالفيديو، ليكون مرجع لكل أُم وأب أرادا إحياء رمضان في منزلهما، وليكون ذكرى لأولادي تعوّضهم عن رمضان الدافئ الحقيقي في بلادنا العربية.
ووضعنا معاً جدولاً للطاعات والعبادات التي سنقوم بها معاً داخل بيتنا في شهر رمضان المبارك.
أذكر جيداً كم وقفت فور وصولي للعيش في النرويج وأنا أنتظر رمضان وهلاله، لكني حينئذٍ رأيت الهلال ولم أرَ أي رمضان حولي في بلاد باردة، حينها عرفت أن رمضان في داخلنا، في قناعاتنا وإيماننا، في عقيدتنا وثباتنا، رمضان القلوب أولى بالاهتمام بعدئذ يتبعه رمضان الظاهر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.