يتزامن ترسّخ الليبرالية الجديدة في العالم مع تصاعد الفكر الثوري والفوضوي فيه، وفي الوقت الذي يتناهى إلى مسامعنا صدى "الفوضى الخلّاقة" فاتحة النظام العالمي الجديد، تتعالى أصوات منادية بمعاداة النُّظم والأنساق السّائدة. فمنذ أحداث 14 يناير/كانون الثاني 2011 بتونس، ينتعش النفس الثوري في العالم العربي بمصر والسودان والجزائر وليبيا وسوريا والعراق ولبنان. وتنشط الحركات الاحتجاجية في العالم الغربي كاحتجاجات أصحاب السترات الصفراء في فرنسا وحركة "احتلّوا وول ستريت"، حيث يعارض اليسار الأمريكي سياسة بلاده، على غرار الفيلسوف نعوم تشومسكي الناقد لسياسة الليبرالية الجديدة، والداعم، من خلال مواقفه وإنتاجاته الفكرية وحواراته الإعلامية، مختلف الحركات الثورية في الوطن العربي.
نعثر في كتابات الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشال أونفراي وحواراته على تشخيص دقيق لعبثية الوضع في العالم اليوم، ويرد الفيلسوف أصل الدّاء إلى "تهرّم" الفكر السياسي المعاصر وعدم قدرته على الخروج من بوتقة الأيديولوجيات الكلاسيكية، وحتى الأفكار التي تبدو في ظاهرها جديدة ليست في الحقيقة سوى إعادة انتاج لتمثّلات قديمة، وقد يسهل على الناس أحياناً وراثة التصوّرات السياسية والاقتصادية الجاهزة فلا يُكلّفون أنفسهم عناء البحث ولا تعب الجدال ويسهل عليهم التسليم بالقوالب الجاهزة.
يسخر أونفراي من التكرار الممل لذات الأفكار ومن الحضور الإعلامي المُكثّف لبعض "شيوخ السياسة"، قائلاً: "إنهم من عهد شارل ديغول". ليس نقد الفيلسوف للشيخوخة هنا نقداً للظاهرة العمريّة في حدّ ذاتها بل هو تصريح بخطورة احتكار السلطة وتحنيط الأيديولوجيات وتبرير ما أفسده الدهر أو تأبيد ما أبقاه تحت شعارات الديمومة والحكمة والوقار، ولمّا جرت العادة أن يقدّم الأجداد دروساً ووصايا، فإن أونفراي يقترح هذه المرّة دروساً موجّهة للجدود أنفسهم.
صدر كتاب "ما بعد الفوضوية مُفسّرة إلى جدّتي" عن دار غاليلي للنشر سنة 2012 ويدعو فيه أونفراي إلى نقد جميع الأيديولوجيات السياسية الكلاسيكية وإلى تجاوز الفكر الفوضوي "على أهميته". لقد ظهر مصطلح ما بعد الفوضوية أول الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وهو يعرف راهناً اهتماماً متزايداً في فرنسا.
يعتبر الفيلسوف أن اليسار الراديكالي الفوضوي وقع في التناقض غير المُجدي وسقط بدوره في تقديس جملة من المعتقدات التي سلّم بها كحقائق ثابتة من ذلك: التشبّث بأطروحة برودون واعتبار الدولة "شرّاً محضاً" ومقاطعة الانتخابات باعتبارها واحدة من وسائل إعادة إنتاج الأنظمة السياسية نفسها. ومن بين هذه المعتقدات أيضاً ربط الرأسمالية بالنظام الليبرالي فقط والحال أنّها أعمّ من ذلك بكثير، ومنها كذلك مواصلة اعتبارها في حماس ماركسي مرحلة عابرة في تاريخ البشرية، وأنه يمكن تجاوزها.
كما يدحض أونفراي الفوضوية الفردانيّة حيث تنشغل الذات فيها بنفسها وبممتلكاتها وتغضّ الطرف عن كُلّ ما يحدث حولها من شرور. وإن كانت لبعض التصوّرات وجاهة في الزمن الذي ظهرت فيه فإن ذلك لا يعني أنها لا تزال كذلك حتى يومنا هذا ما يتطلب مراجعتها من أجل تحيين جزء منها أو تجاوزها كليّاً إن لم تعد تتماشى مع متطلبات العصر، ولم تعد تفي بالغرض.
في هذا السياق النظري حذّر الفيلسوف من أن يقع تبنّي الأفكار والمواقف تحت ضغط مشاعر التنافس والشعور بالدونيّة والغيرة من الآخرين أو إرادة التماثل معهم. يفسّر أونفراي هذه الفكرة بمثال المعارض الذي يكفّ على الدفاع عن غيره بمجرّد أن يحصل على وظيفة مرموقة في الدولة، لذلك لا يمكن اعتبار الغضب الثوري لديه دفاعاً عن مبدأ العدالة الاجتماعية بقدر ما هو تصعيد لحالة انفعالية عابرة.
يقدّم الكاتب جهازاً مفهومياً يعمل من خلاله على تجاوز الأحكام الإيجابية والسلبية حول السلطة والدولة والعلم، حيث يدعو أولاً وقبل كل شيء إلى التحرّر من كل القواعد الفكرية الجاهزة التي تجعل من نفسها مبرراً للسلوك، إذ لا ينبع الفعل هنا من قرار موافق لمتطلبات الواقع بقدر ما ينشد التناسق مع منظومة الأفكار التي تشرع له. تمثّل إطلاقية الأحكام في تقديره سبباً رئيسياً لتحجّر الفكر وتصلّبه ضمن مرجعيّات ضيّقة، فما المانع في أن يتصرّف الأفراد وفق الوضعيّات التي يوجدون فيها؟ وما العيب في أن يكون فكرنا مركّباً ومَرِناً في آن؟
تشير"التحرّرية" في هذا السياق إلى مبدأ فكريّ رافض لكل أشكال التسلّط المستبدّ سواء كان هذا التسلط ناتجاً على نسق سياسي أو اجتماعي أو ديني أو حتى عائلي، ومع ذلك لا تذهب هذه التحررية إلى أقصاها ولا تخطّ على منوال فوضوية مايو/أيار 1968 ولا تطلق العنان لشعار تلك المرحلة الشهير "لا إله! لا سيد"!. بل على العكس من ذلك، إن السلطة ضرورية لتنظيم الحياة البشرية، إلا أنها تكفّ على أن تكون كذلك بمجرد أن تتحوّل إلى هيمنة، لذلك يستوجب أن تكون "أفقية لا عمودية" ومبثوثة في الفضاء التشاركي العام.
تتجاوز التحررية التي يدافع عنها أونفراي التفكيك والعدميّة والسلبيّة، لأنها تسعى إلى أن تكون ديناميكيّة وفاعلة، فلا يكفي أن تحمل الحشود شعارات بطوليّة ضدّ نظام جائر، بل يتعيّن على الفرد أن يواجه الهيمنة كلّما تطلّب الأمر ذلك، وأن يناضل الفرد حتى في إطار جماعات محدودة العدد يسميها الفيلسوف "الجماعات التحرريّة الميكروفيزيائية"، لذلك تبدو هذه المواجهة فاعلة وناجعة دون مغالاة في "أسطورة" بطولات تحطيم الليبرالية. يمكن للنضال المتحرّر أن يكون مَرِناً باعتباره مضاداً من حيث المبدأ، للفكر العنيف والوصيّ ويمكن أن يستعمل كل الوسائل الحديثة من توظيف وسائط تواصل وقوانين للإطباق على أشكال الهيمنة ومحاصرتها وإنهاكها بتبرير خياراتها. يبدو هذا النضال لطيفاً ومقنعاً، وهو أشبه ما يكون "بحصان طروادة"، وفقاً لعبارة أونفراي.
لسائل أن يسأل هنا: بأيّ معنى "سيحصّن" الفيلسوف جماعته الميكروفيزيائية في "إمبراطورية الليبرالية"؟ وما المناهج العملية التي تمكّن من تجاوز الفوضوية الراهنة، فعلى أهميتها لا تخلو مقاربة أونفراي من مواطن هشاشة يصرح بها الفيلسوف نفسه لأنه لا يقدّم معارف ثابتة بقدر ما يدعو إلى استشراف ممكنات جديدة، حيث يحق للتحرريّة أن تتلمس طريقاً جديداً في الفكر والحرية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.