من مقابض الأبواب النحاسية المضادة للبكتيريا إلى الأرصفة العريضة جيدة التهوية، لطالما كان المرض يُغيّر من شكل المُدن والمباني التي نعيش فيها، إذ كان مرض الكوليرا هو الذي أثّر في شبكات الطرق الحديثة، فكيف قد يكون شكل المباني في عالم ما بعد كورونا؟
صحيفة الغارديان البريطانية نشرت تقريراً بعنوان: "حال الهندسة المعمارية في أعقاب فيروس كورونا: مصاعد ذكية، وعمال يشعرون بالوحدة في غياب الأبراج والسياح"، تناول التغييرات المتوقعة على طريقة تشييد المباني في عالم ما بعد كورونا.
الأوبئة أثرت في هندسة المعمار من قبل
من مقابض الأبواب النحاسية المضادة للبكتيريا إلى الجادات العريضة جيدة التهوية، لطالما كان المرض يُغيّر من شكل المُدن والمباني التي نعيش فيها، إذ كان مرض الكوليرا هو الذي أثّر في شبكات الطرق الحديثة، في حين دفعت بنا أوبئة القرن الـ19 إلى إدخال أنظمة الصرف الصحي التي تطلّبت أن تكون الطرق الممدودة فوقها أكبر عرضاً وأكثر استقامة، إلى جانب قوانين المناطق الجديدة لمنع الازدحام.
وفي حين نعيش جميعاً الآن في عزلٍ ذاتي وتباعدٍ اجتماعي مع إغلاق المتاجر، وهجر المكاتب، وتحويل المراكز الحضرية إلى مُدن أشباح؛ من الصعب ألا نتساءل حول نوع التأثير الدائم الذي سيُحدثه كوفيد-19 على مُدننا.
هل يجب أن تتكيّف المنازل بشكلٍ أفضل من أجل استيعاب العمل؟ هل سيزداد عرض الأرصفة حتى نُحافظ على المسافة بيننا؟ هل سنعزف عن الحياة مُكتظين معاً في نفس المكان، أو العمل في المكاتب المفتوحة، أو التكدُّس داخل المصاعد؟ وهل ستعود هواية الوقوف في الطوابير البريطانية المُحبّبة إلى سابق عهدها؟
مبانٍ تقاوم الأوبئة
حوّلت إحدى وكالات التصميم تركيزها بالكامل إلى تخيُّل الشكل الذي سيبدو عليه العالم في أعقاب كوفيد-19، حيث تأسّست شركة Design Research Unit عام 1943، وتتمتّع بتاريخ طويل من التفكير في المشاريع الكُبرى، إذ رسمت تلك الشركة الكثير من مظاهر بريطانيا في أعقاب الحرب، ومن بينها: قبة الاستكشاف، ولافتات شوارع لندن، وشعار سكك الحديد البريطانية. وركّزت الشركة الآن طاقاتها الإبداعية على تخيّل الأساليب التي يُمكن أن تُساعد من خلالها المباني في الحد من انتشار الأوبئة مستقبلاً، وهذا يشمل كل شيء، بدءاً من تخطيط التصميمات الداخلية والمساحات العامة، وصولاً إلى طلاء الأسطح، حتى مستوى النانو.
وقال دارين كومبر، الرئيس التنفيذي للشركة التي اندمجت مع Design Research Unit عام 2004: "سيكمُن التغيير الأكبر في نظرتنا إلى مكان العمل، إذ شهدنا طفرةً كبيرة في مساحات العمل المشتركة. ولكن هل سترغب الشركات فعلياً في وضع فريقها بالكامل داخل مكانٍ واحد بعد ما حدث، حيث يختلطون عن قُرب بموظفي الشركات الأخرى؟".
وكان تسويق حلم العمل المُشترك يجري على أساس التفاعل الاجتماعي، والوعد بأنك ربما تلتقي بالمبتكرين من أرباب الأعمال الحرة أثناء انتظار قهوتك، لكن التقارب لم يعُد جذاباً كما كان. "لا أقترح أن نعود جميعاً إلى العمل في المقصورات الفردية التي تعود إلى الخمسينيات، ولكنّني أعتقد أن المكاتب المكتظة بالعاملين ستتغيّر. وسنشهد عزوفاً عن المخططات المفتوحة، فضلاً عن زيادة التهوية والنوافذ القابلة للفتح".
أثاث يخدم التباعد الاجتماعي
وهذا حدسٌ يُشاركه فيه أرجون كايكر، الذي قاد فريق مكان العمل في شركة Foster and Partners لعقدٍ كامل، وأثّر على المقار الرئيسية العملاقة لشركات Apple وBloomberg، إذ قال كايكر، الذي يرأس الآن قسم التحليلات والرؤى في شركة Zaha Hadid Architects: "أعتقد أنّنا سنشهد ممرات ومداخل أوسع، والمزيد من الحواجز بين الأقسام، والكثير من السلالم. كان التخطيط دائماً يُركّز على كسر الحواجز بين الفرق، لكنّني لا أعتقد أن مساحات العمل ستتداخل مع بعضها البعض كثيراً بعد الآن".
ويُمكن أن يتغيّر شكل الأثاث: "تقلّصت أحجام طاولات المكاتب على مر السنوات، من 1.8 متر إلى 1.6 متر، ثم 1.4 متر أو أقل، ولكنّني أعتقد أن ذلك الاتجاه سينعكس، لأنّ الناس لا يرغبون في الجلوس على مقربةٍ من بعضهم البعض بهذه الدرجة الآن". وتصوّر تشريعاً يُمكن تقديمه لوضع حد أدنى لمساحة الموظف داخل مكتبه، علاوةً على تقليل حد الحمولة الأقصى للمصاعد، وتصميم ردهات أكبر لتقليل التزاحم.
ومن شأن ذلك كله أن يُحدث تأثيراً كبيراً على أُفق المدينة، إذ أضاف: "ستزداد تكلفة تشييد المباني شاهقة الارتفاع، وستكون أقل كفاءة. ما قد يُقلّل الجاذبية الاقتصادية لدى المُطوّرين من أجل بناء الأبراج العالية وشاهقة الارتفاع للأغراض التجارية والسكنية".
مصاعد ذكية بلا أزرار
يعمل فريق كايكر على تصميم مكاتب مستقبلية تُوظّف ما يرى أنها ستكون مبادئ فترة ما بعد فيروس كورونا، إذ صُمّمت شركة Zaha Hadid Architects المقر الرئيسي الجديد لشركة "بيئة" لإدارة النفايات بالشارقة في الإمارات. واعتمد التصميم على مفهوم "الممرات معدومة التلامس"، ما يعني أنّ الموظفين لن يُضطروا في أغلب الأحيان إلى لمس الأسطح بأيديهم أثناء الحركة داخل المبنى. كما يُمكن طلب المصاعد باستخدام الهواتف الذكية، لتجنُّب الحاجة إلى ضغط الأزرار داخل المصعد وخارجه، فضلاً عن أنّ الأبواب تُفتح تلقائياً باستخدام أجهزة استشعار الحركة وأنظمة التعرّف على الوجوه.
وأردف كايكر: "سعينا إلى إلغاء التلامس المباشر مع الخدمات المجتمعية، بدءاً من الشارع ووصولاً إلى منصة العمل". وتابع قائلاً إنّه سيكون بإمكانك التحكُّم في الستائر، والإضاءة، والتهوية، وطلب القهوة باستخدام هاتفك. وفي ظل انتقال 80% من الأمراض المُعدية عن طريق لمس الأسطح المُلوّثة، فإنّ هذا المستقبل بدون استخدام اليدين يبدو آتياً لا محالة.
ومنذ حوّلت الجائحة الاتصال الاجتماعي إلى شر مُطلق، بدأ البعض في توجيه أصابع الاتهام إلى الكثافة السكانية في المدن، لأنّها نشرت المرض بسرعة، مع الترويج إلى الضواحي بوصفها الأماكن الأكثر أماناً. إذ كتب عمدة نيويورك أندرو كومو في تغريدةٍ أواخر مارس/آذار: "هناك مُعدّل كثافةٍ سكانية مُدمّر في نيويورك. ويجب على نيويورك أن تُطوّر خطةً فورية لتقليل الكثافة السكانية".
وفي كافة أنحاء الولايات المتحدة، أدّى الفيروس إلى تضخيم الفجوة بين المدينة والريف، لدرجة أنّ بعض الجمهوريين حمّلوا سكان المُدن -وغالبيتهم من الديمقراطيين- المسؤولية عن نشر المرض.
ربما كانت الكثير من نظريات الصحة العامة في القرن الـ19 مُضلّلة بناءً على شرور الأدخنة المُتصوّرة، ولكن كانت لها نتائج مُفيدة رغم ذلك. فمنذ العصور اليونانية القديمة، كان يُعتقد على نطاقٍ واسع أن المرض ينبعث من الأرض، وينتشر عبر الأبخرة وهواء الليل الفاسد الذي يخرج من التربة.
إذ قال كريستوس لينتريس، عالم الأنثروبولوجيا الطبية بجامعة سانت أندروز، الذي شارك في تأليف كتاب "الطاعون والمدينة Plague and the City": "كان لنظرية ميازما تأثير كبير على المُدن، ومواد البناء تحديداً. وكانت فورة رصف الشوارع بالحجارة مدفوعةً بمنطقٍ صحي ورغبة في سد الثغرات التي تخرج منها غازات الأرض السامة".
وكان يُعتقد أن المرض يُمكن أن يتخلّل أي هيكل متصل بالأرض مباشرةً، لذا أُغلِقَت أسطح الجدران وازداد تغليف المباني وتغطيتها وطلاؤها بالورنيش، مما شكّل درعاً منيعاً ضد العدو الخفي. وكانت الشقوق تُثير قلق الناس بدرجةٍ كبيرة -إذ كانت تدُل على الكلال البنيوي، وتُشير إلى احتمالية تسرّب الأبخرة القاتلة.
وتكشف دراسة لينتريس لجائحة الوباء الثالث -الذي تفشّى أكثر من مرة حول العالم طوال عقود، ليقتل 12 مليون شخص- عن الكيفية التي دفع بها المرض إلى اتّخاذ تدابير حضرية مُشدّدة، إذ أوضح: "كان حرق أجزاء من المدينة يُمثل أشهر الحلول المُتبّعة"، واستشهد بمحاولةٍ مُتشدّدة في هونولولو عام 1900، إذ كانت الخطة تنُص على إحراق الجزء المُصاب بالمرض من الحي الصيني في المدينة (وهي خطة مُفعمةٌ بالنغمات العنصرية)، لكن انتهى المطاف بالحريق ليُدمّر مُعظم المدينة حين غيّرت الرياح اتّجاهها.
ربما لن يتغير أي شيء فعلياً
لكن لينتريس يُشكّك في قدرة فيروس كورونا على تغيير أيّ شيءٍ فعلياً، إذ أوضح: "الجوائح والأوبئة لها فتراتها الزمنية المحدودة، وتكون تلك الفترات مُركّزةً للغاية، وبعدها يتبدّد الذُعر بسرعةٍ كبيرة ولا يتذكّرها الناس عادةً".
وأشار هنا إلى تفشّي السارس عام 2003، حين اكتُشِف أنّ كُتلةً سكنية واحدة في هونغ كونغ صارت موقعاً "فائقاً لنقل العدوى"، نتيجة الطريقة التي تستطيع القطيرات المُلوّثة أن تدخل بها من أنابيب الصرف الصحي إلى الحمامات عبر المصائد المائية الجافة في المصارف. وبعدها، لم يجرِ إصلاح شامل أو فحص دقيق لأنظمة السباكة والتهوية من أجل الحيلولة دون تكرار الأزمة، إذ قال لينتريس: "لن تُحدث جائحةٌ واحدة أيّ تأثيرٍ على الإطلاق، بل يجب أن تُعاود التفشّي أكثر من مرة حتى نلحظ المُشكلة".
ويستغل البعض الأزمة الجارية من أجل العودة خطوةً إلى الوراء، وإعادة تقييم الافتراضات الأساسية حول كيفية هيكلة المُدن، إذ قال ووتر فانزتيفوت، أستاذ سياسات التصميم في جامعة دلفت للتكنولوجيا بهولندا: "هذا هو أفضل وقتٍ على الإطلاق لدراسة فكرة المُدن الإمشائية. هل يُمكن أن يصير فيروس كورونا مُحفّزاً لإلغاء اللامركزية؟ لدينا تلك المستشفيات العملاقة، وأناسٌ يعيشون فوق بعضهم البعض، ولكنّنا نُضطّر إلى التنقّل لمسافات طويلة حول المدينة حتى نصل إليها. وتُشير الجائحة إلى أنّنا يجب أن نُوزّع وحدات أصغر من المستشفيات والمدارس على رقعةٍ أكبر من المسطحات الحضرية وتقوية المراكز المحلية".
ومع الحد من السفر، ازدهرت الأعمال في الشوارع الراقية المحلية، إذ أثبتت المحال والمتاجر الصغيرة إجمالاً أنّها أفضل مخزوناً من المتاجر الكُبرى، فضلاً عن أنّ الجائحة كشفت الستار عن تغييرات أخرى كانت تحدث دون أن ننتبه لها، إذ أوضح فانزتيفوت أنّ الأصدقاء الذين يعيشون في وسط مدينة أمستردام استيقظوا على وقع الحقيقة المُرة. وأردف: "في ظل توقّف السياحة الآن، وخُلو تطبيق Airbnb من الغرف، اكتشفوا أنّهم لا يملكون جيراناً، لا يُوجد حي، ولا تُوجد مدينة، فبمجرد أن يختفي السياح، لا يتبقى شيء".
وكشف فيروس كورونا عن التأثيرات المُختلفة للسياحة والهجرة على مدن العالم. وفي دلهي، شهد المرسوم الصادر بالبقاء في المنزل عودة آلاف العمال المُهاجرين إلى قراهم الريفية سيراً على الأقدام لمئات الكيلومترات، في حين أدّى اضطرارهم لترك العمل إلى العجز عن دفع الإيجار.
وقال فانزتيفوت: "أعتقد أنّ تدعيم المُدن العالمية سيُواجه بعض العثرات. وقد أُدخِلَت الكثير من التطويرات على هذه الشبكة المُتغيّرة من المناطق الحضرية، ولكن يسود الآن شعور أكبر بأنّ المدينة هي مكانٌ آمن ووطن يدعم الاستمرارية. ويُمكن أن نتعامل مع كل ذلك بوصفه تحذيراً من الهجرة، ولكنّني أنظر إلى الأمر من الزاوية المُعاكسة، إذ أرى فيه تحذيراً من السياحة وعدم المساواة التي تُسبّب هجرة العمالة على أساسٍ مُؤقّت. كما أنّه تحذيرٌ من الاقتصاد القائم على الوظائف المُؤقتة وتدمير الخدمات العامة. وتُوضّح الجائحة الكثير من الأمور، ومنها: يُمكنك أن ترى الضرورة المُلحّة لوجود خدمة الصحة العامة ومنظومة الرفاهية الاجتماعية المناسبة، إذ يخلق ذلك صورةً بالغة الوضوح لما هو جيد".