في الجزء الأول من هذا المقال سردنا المنافع التي عادت على الأسرة والمجتمع من تلك الجائحة التي تجتاح العالم هذه الأيام، والتي تمثلت في عودة الأسرة إلى المنزل، ما يعني أن فكرة الأسرة التي قد تفسخت خلال العقود الأخيرة، والتي زاد من تفككها تطور التكنولوجيا حتى أضحى الفرد مستغنياً عن أسرته بجهازه الإلكتروني، ما ضيّع الكثير من القيم الواجب تعلمها في كنف الأسرة، يمكن لها -أي الأسرة وقيمها- أن تبعث من جديد الآن.
وفي الجزء الثاني من المقال تحدثنا عن المنافع التي استفادت بها الدول والمجتمعات، بعد أن انكشف فشل منظومة الرأسمالية الليبرالية المادية المتوحشة. تلك النظرية التي حوَّلت الإنسان إلى آلة تعمل من أجل أصحاب رأس المال. نظرية جعلت من العالم غابة كبيرة، البقاء فيها للأقوى، وهي النظرية التي لم ينفك الغرب عنها حتى في أحلك ما تمر به البشرية بتطبيق نظرية مناعة القطيع لمواجهة الفيروس القاتل، هذه الفكرة التي جعلت العالم يتوقف ملياً ويعيد النظر في الفلسفات التي تحيط به وتسيّر حياته بعد أن استطاع أن يقف كترس في آلة العمل الرأسمالية لينظر حوله.
العالم يحتاج إلى شيء من الإنسانية بعد أن استطاعت الرأسمالية ومن قبلها الاشتراكية الشيوعية سلبه من أدميته، وتحوله إلى رقم في الطاقة المنتجة للدولة أو لصاحب رأس المال. وسواء مع هؤلاء أو مع أولئك، فإن طغمة في كل مجتمع استطاعت أن تعقد فيما بينها؛ ومع أشباههم في العالم، اتفاقيات غير مكتوبة تصب في مصالحهم الشخصية، دون النظر إلى الإنسان جالب ذلك الخير.
قد يؤرخ البعض للرأسمالية الليبرالية بكتابات جيرمي بنثام، أو بعده بقليل، بفلسفات جون ستيوارت ميل، لكن الأمر أبعد من ذلك بكثير. الأمر يعود إلى حقبة الأباطرة ومجتمعاتهم الطبقية التي ثار عليها العبيد، والتي بدأت مع سبارتاكوس، ومستمرة حتى يومنا هذا مع اختلاف الأشكال والمطالب. حركة (احتلوا وول ستريت) هي إحدى الحركات التي انطلقت لتوقف هذا الطغيان الرأسمالي الاستعبادي للبشر. فخرجت المظاهرات في أكثر من 1000 مدينة في 25 دولة ضد أكبر اقتصاديات العالم، مُلهَمةً بثورات الربيع العربي، التي طالبت بالحرية السياسية والاقتصادية من قبضة عصابات الحاكم في بلدانها. تلك الطغم المرتبطة بشكل كبير بهذه الشبكة الأخطبوطية التي تسيطر على مقدرات البشر.
لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم الثائر الأعظم على شبكة مصالح رجال الأعمال في مجتمعه، وصاحب فكر كوني لخروج العالم من وطأة تلك الزمرة المسيطرة على عالمه وعالمنا. لقد استطاع النبي عليه الصلاة والسلام أن يغرس تلك المفاهيم التحررية في أصحابه، فتجد في مقولة الصحابي الجليل ربعي بن عامر في لقائه قائد جيوش كسرى "رستم" خلاصة فهم وفكر الإسلام ورسالته: "نحن قوم أخرجنا الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة".
هذا الفكر الذي أتى به الإسلام هو صلب ما يحتاجه العالم اليوم، فكم يحتاج العالم في ظل توحش الرأسمالية العالمية واستعبادها للناس أن يجد من ينقذه من براثن ذلك الكاسر المتوحش، لكن السؤال الوجودي في هذا السياق: هل يستطيع المسلمون أن يخرجوا العالم مما هو فيه؟
لا شك أن الإسلام الذي حكم معظم المعمورة لأكثر من ألف ومائة عام، قادر على أن يحيي العالم بعد أن أنهكه جور الإنسان على أخيه الإنسان. لكن المسلمين في حالهم الآن يحتاجون الكثير حتى يحيوا تعاليم النبي محمد في قلوبهم أولاً، ويدركوا مغازي رسالته، ويبلورون أفكاره بما يصلح كحلول لأزمة العالم الآن.
إن أزمة الإسلام في هذا الزمن تكمن في المسلمين الذي تشربوا المفاهيم الغربية في الاقتصاد والسياسة وإدارة المجتمعات. وهم في ذلك معذورون، فالكتابات المنطلقة من ثوابت الإسلام ضعيفة، والعودة إلى كتابات الأوائل مضيعة للوقت، فلا العالم هو العالم ولا الزمان هو الزمان. لذا فإنه لزاماً علينا أن يتحرك المسلمون الآن وبأقصى سرعة، ويبنون على ما كتب خلال الخمسين سنة الماضية ويطورونه بناء على دراسة واعية لمشاكل العالم وأسبابها، واحتياجات الناس وتطلعاتهم.
العلماء العرب والمسلمون المؤثرون فعلياً في مراكز الأبحاث والدراسات والجامعات المعتبرة حول العالم يقدرون بمئات الآلاف، يُضاف إليهم أولئك الفاعلون في جامعاتهم ومراكزهم ومختبراتهم في بلدانهم، هؤلاء العلماء يضيفون كل يوم من خلال مراكزهم وجامعتهم للحضارة الإنسانية، لكن جهدهم هذا محسوب في رصيد الغرب. هؤلاء العلماء يستطيعون أن يعيدوا مجد الأمة لو وجدوا الإرادة الحقيقية من الشعوب -وهي موجودة ولا أشك- ومن الحكام -وفيها كلام- لخدمة هذه الأمة. فالإمكانات متوفرة والكوادر جاهزة، كل ما ينقصنا هو إرادة ومشروع يحيي الأمل في هذه الأمة، التي احتضنت البشر من غير تفرقة بين لون أو عرق أو جنس، تلك الحضارة التي ساوت بين الجميع، وأطلقت العنان للفرد دون الجور على المجتمع. تلك الحضارة التي حرصت على توفير متطلبات الإنسان الأساسية وتفننت معها في حفظ كرامته، تلك الحضارة التي قدرت العلم والفن وارتقت بالروح مع المادة.
من يرى ويشاهد ويتابع أوضاع غير المسلمين في الغرب والتجائهم إلى ما يملأ خواء أرواحهم من روحانيات وشعائر، يعلم أن الشعوب الآن جاهزة للعودة إلى الدين، بعد أن أوهمها الغرب بأن الدين هو سبب تخلفها. وأن التقدم في ترك الدين، والانطلاق نحو الحرية الفردية التي تفتح الآفاق نحو الإبداع والكسب غير المشروط.
الآن زال هذا الوهم بعد أن كشفت جائحة كورونا عن وجه مجموعة المصالح التي تسيطر على العالم، وتبث هذه المفاهيم، لتُرمى الكرة في ملعبنا نحن المسلمين بسؤال كبير مفاده: هل لدينا الإرادة لإنقاذ العالم؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.