مع استمرار تفشي وباء كورونا وتعاظم خسائره البشرية والاقتصادية والمالية، بات السؤال المطروح في كل دول العالم: أيهما أولى، المحافظة على الصحة العامة للمواطن من المخاطر، أم إعادة تشغيل الاقتصاد ودوران "تروس" المصانع والعجلة الإنتاجية؟
أيهما يسبق الآخر، المحافظة على صحة العمال والموظفين، وهم ثروة بشرية لأي مجتمع، أم وقف الخسائر التي باتت تقدر بتريليونات الدولارات وتهدد اقتصاديات دول كبرى بما فيها أكبر اقتصادين في العالم، الأمريكي والصيني ويسبقهما بالطبع الاقتصاد الأوروبي؟
هذان السؤالان قفزا إلى الواجهة عقب مرور عدة أسابيع على تفشي وباء كورونا دون العثور على ضوء في النفق المظلم للفيروس الذي بات يهدد العالم بالدخول في أضخم موجة ركود منذ العام 1929.
في بداية الأزمة قررت العديد من دول العالم فرض حظر تجوال وحجر صحي وتقييد حركة الأفراد والطيران والسياحة وتعطيل المدارس والجامعات ومعها المصانع والمنشآت الإنتاجية بهدف الحد من انتشار الفيروس.
كان تصور بعض الحكومات مع اندلاع الأزمة أن خسائر الحجر الصحي الجماعي وتعطيل الحركة داخل المجتمع لمدة أسبوعين، هما الفترة المخصصة للقضاء على الوباء والمحافظة على صحة المواطن، يمكن تعويضها بسرعة عقب عودة النشاط الاقتصادي وتشغيل المنشآت الإنتاجية وعودة العمال لمصانعهم.
لكن مع مرور الوقت وعدم وجود أفق زمني للقضاء على فيروس كورونا بات الجميع يتذمر من تراكم الخسائر وفداحتها خاصة على مستوى قطاعات حيوية مثل السياحة والطيران والتصدير وحركة الأموال والاستثمارات والبضائع والسلع وقطع الغيار ومدخلات الإنتاج وسلاسل التوريد.
كان في مقدمة المتذمرين الحكومات التي خصصت برامج إنقاذ بقيمة ترليونات الدولارات لتحفيز الاقتصاد والحيلولة دون انهياره بشكل سريع، وامتصاص خسائر الوباء سواء على الصحة العامة أو الأنشطة الاقتصادية، وسداد رواتب العمال الذين اضطرهم الوباء إلى الانقطاع عن العمل بسبب قرار الحجر الصحي، وكذا سداد إعانات بطالة لملايين العاطلين عن العمل، والذين تجاوز عددهم أكثر من 15 مليوناً في الولايات المتحدة وحدها نهاية الأسبوع الماضي.
رجال الأعمال كانوا أكثر تذمراً حيث باتوا مطالبين بسداد رواتب العمال في المصانع والشركات الخاصة التي تعطل الإنتاج بها دون أن يكون هناك في المقابل إيرادات ومبيعات وتصدير وسيولة نقدية تمول عملية الإنفاق على الرواتب التي تمثل جزءاً مهماً من تكلفة الإنتاج.
وفي المقابل فإن هناك الأسواق، الضلع الأهم في المعادلة، حيث يطالب المستهلك الحكومة والقطاع الخاص بتوفر السلع سواء الضرورية مثلاً الأغذية أو حتى الكمالية، فالمواطن يزعجه بشدة اختفاء سلعة أو زجاجة مياه أو علبة دواء. كما يزعجه حدوث أي ارتفاع في الأسعار يربك ميزانيته، خاصة في وقت الأزمات.
مليارات للعاطلين عن العمل
هذا التذمر طال كل الدول المتضررة من الفيروس التي تحركت بعض حكوماتها محاولة إعادة تنشيط الاقتصاد بغض النظر عن المخاطر الصحية المتزايدة وتهديد صحة المواطن بشكل مباشر، ففي مناسبات عدة لوح الرئيس الأميركي دونالد ترامب باستئناف النشاط الاقتصادي، وحذر من أن الإغلاق العام في الولايات المتحدة للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد الذي بدأ يتسبب في أزمة اقتصادية يمكن أن يدمر البلاد.
بل أن ترامب استفز مشاعر الأميركيين في بعض التصريحات ومنها: "نفقد آلاف الأشخاص سنوياً بسبب الإنفلونزا ولا نغلق البلد، ونخسر عدداً أكبر من ذلك في حوادث سير، ولا نطالب شركات السيارات بوقف إنتاجها، علينا العودة إلى العمل".
لكن الشارع الأمريكي ومعه الأحزاب ونواب الكونغرس والمجتمع المدني هاجموا ترامب بشدة، مؤكدين له أن الحفاظ على الصحة العامة أهم مئات المرات من إعادة تشغيل الاقتصاد، ومكاسب كبار المستثمرين من ارتفاع البورصة الأميركية ومؤشرات وول ستريت، بل واتهموه بمحاولة حصد مكاسب سياسية من إعادة تشغيل الاقتصاد ومحاولة الفوز بفترة ثانية في الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
وتكرر السيناريو في دول أخرى من العالم خاصة دول الاتحاد الأوروبي التي اختارت حكوماتها المحافظة على الصحة العامة للمواطن والعمال كأولوية، حتى ولو أدى ذلك إلى الحاق خسائر فادحة بالاقتصاد كما هو الحال في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا والنرويج أكثر الدول رفاهية وغيرها.
برامج حماية اجتماعية
ساعد في دعم موقف هذه الحكومات وجود برامج حماية اجتماعية تحمي حقوق العمال لدى هذه الدول وقت الأزمات، مع تخصيص الحكومات جزءاً من برامج التحفيز التي أقروها لتقديم إعانات ورواتب ثابتة للعمال الذين جلسوا في منازلهم بسبب قرار الحجر الصحي الذي فرضته الدول على الجميع.
في ألمانيا مثلاً وعقب تفشي وباء كورونا سارعت الحكومة بإقرار خطة تحفيز من أبرز ملامحها دعم الشركات في الاحتفاظ بالعمالة من خلال العمل بدوام جزئي بدلاً من تسريحهم، وتقديم حزمة مساعدات غير مسبوقة لإنقاذ فرص العمل والشركات في ظل أزمة وباء كورونا المستجد. وتشمل حزمة المساعدات كذلك حصول الشركات الصغيرة وأصحاب المهن الحرة مثل الفنانين والأفراد العاملين في مجال الرعاية على مساعدات مباشرة لمدة ثلاثة أشهر.
وفي فرنسا خصصت الحكومة 300 مليار يورو لحماية الشركات من الإفلاس و45 مليار يورو لدعم الشركات المتضررة من فيروس كورونا ومساعدتها في الاحتفاظ بالعمالة، كما أعلنت أنها تعتزم إنفاق 11 مليار يورو على خطة لإبقاء العمال في وظائف جزئية. وتحركت حكومة ماكرون بسرعة لعلاج الأزمة حيث قدمت إعانات بطالة جزئية لنحو 8 ملايين موظف يعملون في 700 ألف مؤسسة وجمعية، وهذا الرقم يمثل أكثر من ثلث الموظفين في القطاع الخاص. علماً بأن وضع البطالة الجزئية يتيح للموظف الحصول على تعويضات في حدود 70% من الراتب الإجمالي و84% من الراتب الصافي.
وفي الولايات المتحدة تضمنت حزمة الإنقاذ التي أقرتها إدارة ترامب وبعدها الكونغرس تخصيص 250 مليار دولار للتوسع في إعانة البطالة و290 مليار دولار لتمويل مدفوعات تصل إلى ثلاثة آلاف دولار لملايين الأسر و500 مليار دولار للصناعات المتضررة.
وبموجب قانون جديد أقرته السلطات الأميركية كذلك، تم توسيع نطاق إعانات البطالة بحيث تصل إلى أولئك الذين لا تشملهم عادة، مثل العاملين لحسابهم الخاص والعاملين المؤقتين، ومكّن القانون من دفع أموال بشكل مباشر للأفراد والشركات، الذين تأثرت أرزاقهم وأعمالهم بالوباء.
وجاء هذا التحرك السريع من قبل إدارة ترامب بعد أن خسر الاقتصاد 701 ألف وظيفة في شهر مارس/آذار الماضي، وهذه أكبر خسارة للوظائف منذ الكساد الكبير في 1929، وما أزعج ترامب من تلك الأرقام أنها أنهت أطول فترة ازدهار للتوظيف في التاريخ الأمريكي والتي بدأت في أواخر 2010، وكان يراهن على تلك الأرقام في الفوز بفترة ثانية.
ولمواجهة أزمة البطالة المؤقتة، رصدت دول أوروبية أخرى مليارات الدولارات للحفاظ على الوظائف ومساعدة العاطلين عن العمل، النرويج مثلاً قدمت مساعدات لكل العاطلين عن العمل، و9 مليارات يورو للشركات المتضررة.
وخصصت أيرلندا 3 مليارات يورو لحماية اقتصادها، بينها 2.4 مليار يورو كرواتب ثابتة للذين يقومون بالعزلة الذاتية أو الذين تم تشخيصهم بالإصابة بفيروس كورونا، وأقرت إيطاليا مساعدات بـ25 مليار يورو، لدعم الاقتصاد وحماية العائلات والعمال والمستثمرين.
وفي تركيا حظرت الحكومة عمليات تسريح للعمال مع تقديم مساعدات لمن لا يحصلون على إعانة بطالة، وحسب مصادر بحزب العدالة والتنمية الحاكم فإن الحكومة ستحظر تسريح العمال لمدة ثلاثة أشهر وستقدم رواتب يومية تقارب 40 ليرة (5.8 دولار) للأشخاص غير المؤهلين للحصول على إعانات البطالة وفقدوا وظائفهم بعد 15 مارس/آذار.
التضحية بالعمال في المنطقة العربية
لكن الصورة تختلف في الجانب الأخر من الكرة الأرضية حيث المنطقة العربية، فقد تركت الحكومات أمر تحديد مصير العمال للشركات التي يعملون بها ولرجال الأعمال المالكين لهذه الشركات والذين لا يهم معظمهم سوى حصد مزيد من الأرباح حتى ولو على حساب صحة العمال.
صحيح أن هناك مبادرات فردية مثل التي قامت بها مجموعة شركات العربي في مصر والتي بادرت بطمأنة موظفيها وعمالها بأنه لن يمس برواتبهم، ولن تتخلى عنهم.
لكن في المقابل فإن لوبي رجال الأعمال المصريين ضغط على الحكومة لاستئناف النشاط الاقتصادي دون توفير ضمانات كافية للحفاظ على الصحة العامة، وقاد هذا اللوبي نجيب ساويرس والمهندس حسين صبور ورؤوف غبور وغيرهم من كبار رجال الأعمال الذين أكدوا أن القطاع الخاص قد يضطر لتخفيض الرواتب وتسريح أعداد كبيرة من العمال مع توقف النشاط الاقتصادي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.