عندما قررت السعودية، الزعيمة الفعلية لمنظمة أوبك والعضو الأكثر نفوذاً بالمنظمة، في اجتماع المنظمة في فيينا، كسر شراكتها النفطية الاستراتيجية الحديثة مع روسيا وتبنِّي سياسة جديدة لزيادة مستويات إنتاج النفط، انهارت أسعار النفط، في أكبر انخفاض لأسعار النفط منذ حرب الخليج 1991.
ولكن الأهم هو أن هذه السياسة الجديدة أعادت معايرة أسواق النفط العالمية، ومنحت السعودية الأفضلية على المدى الطويل. وتعد هذه الخطوة فرصةً كبيرة للدولة الأكثر تصديراً للنفط في العالم، بعدما حاولت خلال السنوات الأخيرة أن تسيطر على أسواق النفط العالمية من خلال تعديل مستويات الإنتاج مع الحفاظ على تعاونها الصعب مع روسيا. وقرَّر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أخيراً اتباع سياسة طويلة الأمد لا تحافظ فحسب على الحصة السوقية للمملكة بل تزيدها، وترسم أيضاً ملامح نهاية عصر منظمة أوبك بوصفها منظمة موحدة فاعلة.
لا يحظى القرار بشعبيةٍ كبيرة لدى معظم الدول المصدرة للنفط، وشركات الطاقة العالمية وشركات إنتاج النفط الصخري الأمريكية، لأن انهيار الأسعار سوف يؤدي إلى انخفاض كبير في أرباحهم، وقد يدفعهم في بعض الحالات إلى الإفلاس.
لكن هناك العديد من الأسباب التي دفعت السعودية إلى اتخاذ هذا النهج الهجومي.
أولاً، أدرك ملوك السعودية المتعاقبون الأهمية الاستراتيجية لفائض القدرة الإنتاجية من أجل السيطرة على الأسواق العالمية، لأنها توفر مؤشراً مهماً لقدرة سوق النفط العالمي على الاستجابة للأزمات المفاجئة التي قد تهدد التدفق الحر لإمدادات النفط.
أنفقت شركة أرامكو الحكومية، عملاق صناعة النفط والغاز في السعودية، أكثر من 35 مليار دولار منذ 2012 للحفاظ على معدل إنتاج 12 مليون برميل يومياً مع فائض إنتاج 1.5 إلى 2 مليون برميل يومياً يمكن اللجوء إليه خلال فترةٍ وجيزة. وهذا ما سيفعله السعوديون بالفعل خلال الأسابيع المقبلة. من المتوقع أن تضخ شركة أرامكو السعودية ما يصل إلى 12 مليون برميل يومياً في هذا الشهر أبريل/نيسان 2020، بمعدل تصدير يصل إلى ما بين 9.5 و10 ملايين برميل يومياً.
من المرجح أن تتفوَّق السعودية على روسيا وتصبح ثاني أكبر منتج للنفط في العالم. ولكن حرب أسعار النفط لن تنتهي حتى تستعيد السعودية صدارة إنتاج النفط العالمية من الولايات المتحدة، وهو ما قد يحدث خلال العامين المقبلين.
لا توجد دولة أخرى غير السعودية، بما في ذلك روسيا، لديها الإرادة السياسية والقدرة المالية للاستثمار بهذا الثقل في القدرة الإنتاجية. ويوفر ذلك للسعوديين الوسائل اللازمة لتنفيذ ذلك وحدهم وإلحاق فوضى لا يمكن التغلب عليها من قبل منافسيهم في مجال إنتاج النفط التقليدي والنفط الصخري في جميع أنحاء العالم. وللتأكيد على تلك النقطة، أصدر وزير الطاقة السعودي، الأمير عبدالعزيز بن سلمان، توجيهات جديدة الأسبوع الماضي بزيادة القدرة الإنتاجية المستدامة لشركة أرامكو السعودية إلى 13 مليون برميل يومياً خلال 24 شهراً.
من المنظور السعودي، يمكن للسعودية تحمّل أسعار النفط المنخفضة خلال العقد المقبل. ووفقاً للرئيس التنفيذي لشركة أرامكو، أمين ناصر: "باختصار، بإمكان شركة أرامكو السعودية إبقاء أسعار النفط منخفضة جداً لفترة طويلة". ويعتبر النفط السعودي هو الأرخص في الإنتاج عالمياً، إذ تبلغ كافة التكلفة (شاملة الضرائب الإجمالية والإنفاق الرأسمالي ومصاريف النقل) 8.98 دولار للبرميل، وفقاً للبيان التمهيدي للطرح الأولي العام لشركة أرامكو العام الماضي.
وبالمقارنة، تبلغ تكلفة إنتاج النفط الصخري الأمريكي 23.35 دولار للبرميل (والنفط غير الصخري 20.99 دولار للبرميل)، بينما تبلغ متوسط تكلفة إنتاج النفط الروسي 19.21 دولار للبرميل، وفقاً لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية.
في الواقع، مع تقنيات الحفر الجديدة، تمكنت السعودية من خفض تكلفة الإنتاج أكثر من ذلك في بعض الحقول، مثل حقل نفط الشيبة، أكبر حقل نفط بحري في العالم.
ثانياً، تمتلك السعودية أكثر من 500 مليار دولار من صافي الأصول الأجنبية، لذا فإن أموالهم العامة محمية من أي انخفاض مفاجئ في عائدات مبيعات النفط.
وترى السياسة السعودية الجديدة أن أسعار النفط المنخفضة على النحو الطويل سوف تساعدهم في الحفاظ على حصتهم السوقية، وزيادتها مع الوقت، في مواجهة طفرة إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة؛ إذ أضاف التكسير الهيدروليكي للنفط الصخري بالفعل عدة ملايين براميل نفط جديدة إلى الأسواق العالمية يومياً. ولكن تظل تكلفة استخراج النفط الصخري باهظة، لذا خفض الأسعار إلى مستوى يتراوح بين 20 دولاراً و25 دولاراً للبرميل يعني أن العديد من شركات إنتاج النفط الكبيرة في الولايات المتحدة سوف تجد نماذج أعمالها غير مجزية بما يكفي على المدى القصير وخاسرة تماماً على المدى البعيد.
وتحتفظ السعودية بحوالي 25% من احتياطي النفط العالمي، وحوالي 70% من فائض القدرة الإنتاجية العالمية للنفط، وهي أكبر مصدر للنفط الخام بفارق كبير عن باقي الدول.
ومن خلال نماذج توقعات الإيرادات المختلفة القائمة على متوسطات أسعار النفط ومستويات التصدير المختلفة، تعمل وزارة المالية السعودية ومؤسسة النقد العربي السعودي على تصميم خطط إنفاق حكومي يمكنها العمل مع انخفاض أسعار النفط إلى 30 دولاراً للبرميل في المتوسط على مدار السنوات الخمس المقبلة، مع انخفاضات مؤقتة قد تصل إلى 15 دولاراً للبرميل، وفقاً للعديد من نماذج التوقعات الحكومية المختلفة. وأكد المدير المالي لشركة أرامكو، خالد الدباغ، مجدداً، على هذه النقطة قائلاً: "يمكننا في أرامكو تلبية توقعات المساهمين بأريحية كبيرة حتى مع وصول سعر البرميل إلى 30 دولاراً أو أقل".
سيكون التشكيك في التصميم السياسي للقيادة السعودية الحالية على استمرار تلك السياسية الجديدة خطأً فادحاً.
لقد أنشأت السعودية سوق نفط جديدة بقواعد وأسس جديدة. وسوف يعاني كل منتجي النفط الذين لن يُسرعوا بفهم هذا التحول الهائل واستيعاب الواقع الجديد.
– هذا الموضوع مترجم عن شبكة CNN الأمريكية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.