قضيت الليلة السابعة من الحجر أتتبع آخر الأخبار عن فيروس كورونا على شاشة المحمول، وقبل أن أنام كنت تفقدت هاتفياً أمي وأختي و أخي المقيم بفرنسا. في نحو الساعة الثالثة صباحاً، استيقظت مفزوعة على أصوات مخيفة، نباح كلاب وعواء قطط وأصوات أخرى غريبة لم أتمكن من فرزها وتحديدها. هلعٌ دق قلبي، ذكَّرني بأخي الوسيم الرياضي حسين الذي فارقنا في ريعان شبابه سنة 2010 بعد صراع مرير مع مرض السرطان اللعين. ذكَّرني أيضاً بأخي الرائع الاستثنائي أحمد، الذي فارقنا فجأة بسكتة قلبية، دون إشعار ودون وداع.
آه لهذه الحياة الفانية، كأني بها زجاجة عطر نفيس لا يلبث أن يتبخر! كأني بها رغوة صابون تذهب إلى جوف الأرض من ثقب حوض الحمام! كأني بها حبيبات منزلقة، فقاعات هواء متطايرة بسرعة مذهلة، قطرات مطر منجرف، ومضة للحياة وأخرى للموت! ما زالت أصواتهما تسكنني، وما زال أسى الفقد يقتلني، ولن ينتهي إلى أن ألتقيهما في الحياة الأخرى.
سؤال الحياة و الموت يؤلم رأسي: لماذا خُلقنا طالما سنموت؟ لم أشأ أن ألج مطارحات الفلسفة فيما يخص هذا الموضوع ولا حتى مقولات الدين، كنت فقط أنصت إلى النزيف الداخلي طيلة أيام الحجر وأتحسس عدمية الوجود.
ربي.. ليتنا لم نأتِ إلى هذه الحياة طالما ستنتهي.
أتطلع من زجاج الشرفة أرمق سيارتي المصطفَّة في مرآب الحي، بنظرة خاصة مليئة بالحنين، فكم سافرت بواسطتها إلى مدن أُحبها: آلجي، بجاية، جيجل، سكيكدة، عنابة، وحتى تونس زرتها في الصائفة الفارطة بسيارتي الرمادية "كليو إم ب 3".
آه كم اشتاق إلى السفر…!
أضواء الحي منطفئة، البيوت غارقة في الصمت، ولا شيء يتحرك، الممر الممتد من الحي الذي أقطن به إلى الجامعة، ومنه إلى الطريق السريع فارغ، ولا أثر للكلاب ولا للقطط. لا شيء هناك سوى نجمة وحيدة في كبد السماء ترسل غمّازات متواصلة من بعيد. أعود إلى الصالون أجلس على الكنبة دون رغبة في شرب الماء. فقد تحسست حلقي جيداً ووجدته رطباً ولا يحتاج ماء. قلت في نفسي: صحيح أن زمرة دمي "أ"، ولكن الحمد لله فأنا لا أسعل ولا أشعر بالحمى.
كصوفيَّة، حافية القدمين، رحت أدور في أرجاء الشقة ثم دخلت غرفة المكتبة، الدواوين الشعرية ترمقني بنظرة لا تخلو من عشق وألم، كأنها تود احتضاني وأنا في ذلك الضياع؛ دواوين لمحمود درويش، علي أحمد سعيد، أدونيس، أنسي الحاج، صلاح عبدالصبور، السياب، الفيتوري، لوركا بابلو نيرودا، رمبو، بودلير، الشابي، وغيرهم.
أما الروايات وهي مرصوفة بعناية في رفوفٍ بعضها فوق بعض، فقد كانت ترسل إليَّ إشارات مواساة وتعاطف؛ روايات كثيرة كنت قرأتها وأخرى ما زالت تنتظر. رواية باولو كويلو "الخيميائي"، "العجوز والبحر" لإرنست همنغواي التي قرأتها في مرحلة دراستي الثانوية، "الإخوة كرامازوف" لديستوفيسكي، "زوربا اليوناني" لنكازازاكي… روايات مختلفة من الشرق ومن الغرب ومن الجزائر وتونس والمغرب. يتوقف نظري عند رواية "قواعد العشق الأربعون" للكاتبة التركية إليف شافاق، التي كانت أجمل هدية حظيت بها من صديق رائع، فكم أشتاق إلى ذلك الصديق البعيد القريب.
لكل كتاب في مكتبتي اقتنيته أو أُهدِيَ إليَّ حكاية سفر وصداقة واكتشاف ومغامرة… ومع الكتب عشت حكايات حقيقية مبهرة، أجملها قصة صديق شاعر مجنون يسرق الكتب ليهديها إلى من يحب. أذكر أنه بكى بحرقة عندما أرجعت إليه تلك الروايات التي أهداني إياها إثر اعترافه لي بأنه قام بسرقتها، وأنه ماهر في سرقة الكتب ولا أحد يشك فيه إطلاقاً. عاتبته كثيراً وتوقفت عن اللقاء به منذ ذلك الحين. أما اليوم وأنا أشاهد ما يحدث من سرقات ونهب وقرصنة للأدوية والعتاد الطبي من طرف دول كبرى والعالم في حجره الصحي، أشعر بأني ظلمت كثيراً صديقي سارق الكتب.. آه كم أشتاق إليه!
انسللت من حكايا كتبي ودردشتها اللذيذة… دون أن أتصفح كتاباً واحداً، إذ لم تكن بي رغبة في القراءة.
عُدت إلى الفراش، احتضنت المخدة منتشلةً جسدي وروحي من أرق كورونا وأصوات الفزع وقد هدهدتني موسيقى الكتب وحواراتي الصامتة معها. لم أرَ في منامي شيئاً على الإطلاق كأني ذُبت في اللاشيء. في الصباح عُدت إلى الحياة مرة أخرى على أصوات زقزقة العصافير، التي يبدو أنها تكاثرت، وهديل الحمام الذي ما زال يحط ويطير من وإلى شرفتي، وأصبحت الساعة الثامنة صباحاً.