على الرغم من تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقرب التوصل لاتفاق سعودي-روسي لوقف حرب أسعار النفط وخفض الإنتاج، فإن هناك أسباباً تجعل التوصل لاتفاقية عالمية للحفاظ على أسعار النفط أمراً عسيراً، فما هي؟
مجلة فورين بوليسي الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "5 أسباب ترجح عدم نجاح أي اتفاقية عالمية لدعم أسعار النفط"، ألقى الضوء على المشهد العالمي المتشابك بصورة معقدة تجعل من الاتفاق بين لاعبين أساسيين تتداخل مصالحهم وتتضارب بصورة يبدو معها دعم أسعار النفط مهمة عسيرة، أعده جيسون بوردوف، مسؤول سابق في "مجلس الأمن القومي" الأمريكي، ومستشار خاص للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، والمدير المؤسس لمركز "سياسة الطاقة العالمية" التابع لجامعة كولومبيا الأمريكية.
غياب آلية العمل الجماعي
لا توجد أي آلية فعالة تحمل غالبية الدول على العمل معاً لخفض الإنتاج. الواقع أن الدول المنتجة للنفط والدول المستهلكة للنفط يشكل كل منها منظمة مختلفة. إذ في أعقاب صدمة حظر النفط العربي في عام 1973، عمدت الدول الرئيسية المستهلكة للنفط إلى تشكيل "الوكالة الدولية للطاقة"، وتوافقت على الاحتفاظ باحتياطيات نفطية للطوارئ. واليوم، تضم الوكالة دولاً كبرى مثل الهند والصين أعضاءً منتسبين.
أما الدول المنتجة للنفط فلديها منظمة "أوبك"، وهي منظمة لا تنفك تتطور أيضاً من خلال التعاون مع دول غير أعضاء فيها مثل روسيا. ومع ذلك، يبقى عدد من الدول الرئيسية المنتجة للنفط خارج أوبك، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي تحتل وضعاً فريداً من حيث كونها أكبر منتج للنفط في العالم وأكبر مستهلك في الوقت ذاته، غير أنها تفتقر إلى صيغة فعالة للحوار مع المنتجين الآخرين. وقد تبدو مجموعة العشرين، التي تضم بين أعضائها الولايات المتحدة والسعودية وروسيا، محيطاً مناسباً للتوافق بين كبار المنتجين وإصدار إعلان تاريخي للتعاون يوم الجمعة، لكنها وبحكم طبيعتها كمنظمة تضم دولاً مستهلكة للنفط ذات مصالح متباينة فيما بينها، لا تصلح مجموعة العشرين لهذا الغرض.
الإنتاج الأمريكي خارج سيطرة الحكومة
حتى وإن كان ثمة منتدى يجمع المنتجين الرئيسيين للتفاوض بشأن مستويات الإنتاج، فإن الولايات المتحدة ليس لديها الكثير لتقدمه إلى طاولة المفاوضات، فالحكومة الفيدرالية لا تتحكم مباشرةً بكمية النفط التي تنتجها البلاد. والواقع أن مستويات إنتاج النفط في الولايات المتحدة يجري تحديدها من خلال آلاف من القرارات الاقتصادية لشركات عائدة لأفراد، وليس شركات حكومية. وهذا هو السبب في أن الولايات المتحدة أشارت بالفعل إلى أنها لا تستطيع الالتزام بمستويات الإنتاج التي قد تتوافق عليها الحكومات خلال الاجتماع المقرر يوم الجمعة لمسؤولي الطاقة في دول مجموعة العشرين، حتى وإن كان بإمكانها الإشارة إلى انخفاضات متوقعة في الإنتاج ووصفها بأنها "تخفيضات".
من الناحية النظرية، تمتلك بعض الولايات الأمريكية، مثل تكساس وأكولاهوما، سلطةَ الحد من الإنتاج. وفي حين أن "لجنة سكك حديد تكساس" -التي كانت بمثابة نموذج لأوبك عند تأسيسها- قد تقرر إحياء نظام الحصص (الكوتة)، إلا أن عدداً كبيراً من شركات النفط الأمريكية لا يزال يعارض تلك المساعي. كما أن خضوع آبار البترول لنظام الحصص لطالما كان أمراً معقداً، كما تُبين لنا تجارب سابقة، عندما كانت تلك الحصص جزءاً من نظام بالغ التعقيد من برامج التوزيع ومراقبة الأسعار وقيود الاستيراد.
بالتالي، وبعد أن ضغطت لسنوات لتحرير أسواق الطاقة والسماح للتجارة الحرة بتسيير العمل، قد تندم صناعة النفط الأمريكية إذا انحازت لفتح الباب أمام مزيد من سيطرة الدولة، خاصة أن أي سيطرة من هذا القبيل الأرجح أن يهيمن عليها بعد حين نشطاء المناخ وحلفاؤهم السياسيون، متيحاً لهم العمل على خفض الإنتاج وفرض القيود على التصدير.
أحكام السوق أقوى من الجميع
تعمل الأسواق عملها. فقطاع النفط الأمريكي سيخفِّض الإنتاج سواء طلبت الحكومة ذلك أم لا. ومن المتوقع أن ينخفض الإنتاج الأمريكي بما لا يقل عن مليون برميل يومياً بحلول نهاية عام 2020، وربما بنسبة أكبر بكثير في العام المقبل إذا ظلت الأسعار منخفضة. كما أن النفط الصخري يختلف أيضاً لأنه ينطوي على دورة إنتاج قصيرة، إذ يمكن تخفيض الإنتاج بسرعة أكبر من النفط المنتج تقليدياً وإعادة الإنتاج بسرعة أكبر أيضاً، وهو ما يساعد في استقرار اختلالات السوق.
وفي حين أن انهيار أسعار النفط يسبب معاناةً لعدد كبير من الشركات والأفراد، فإنه يفرض أيضاً إعادة الهيكلة المالية ويقضي على الشركات الأضعف والأكبر مديونية. ومع ذلك، تظل عدداً من موارد النفط الصخري جذابة اقتصادياً للاستثمار فيها، وهو ما يتركها للشركات ذات الميزانيات العمومية الأقوى للاستمرار في إنتاج النفط مع تعافي الأسعار. ومن ثم ستكون النتيجة صناعةً أقوى في قطاع إنتاج الزيوت الصخرية، وإن كانت تنمو بمعدل أبطأ مما كانت عليه في الماضي.
تشابُك العلاقات والمصالح بين كبار المنتجين
تظل الدبلوماسية أداةً فعالة لحث السعودية وروسيا على قيادة دول أخرى في خفض الإنتاج، وفي الماضي، اعتاد الرؤساء الأمريكيون من كلا الحزبين أن يطلبوا من السعودية الحفاظ على استقرار أسعار النفط خلال الأزمات، وغالباً ما استجابت السعودية (خلال إعصار كاترينا وخلال الحرب الأهلية الليبية، على سبيل المثال).
والسعودية هي الدولة الوحيدة التي تحتفظ بمخزون احتياطي ذي ثقل -وأثمان باهظة- لدرجةٍ تمكنها من إصدار استجابات مؤثرة خلال أوضاع مثل التي نشهدها الآن، وهو ما يمنح المملكة وزناً فريداً من ناحية تأثيرها الجيوسياسي. غير أنه، وبالنظر إلى أهمية دعم الولايات المتحدة للرياض، فقد تكون تهديدات الكونغرس فعالة أيضاً.
على الجانب الآخر، فإن دبلوماسية النفط بين الولايات المتحدة وروسيا معقدةٌ إلى حد كبير بسبب العقوبات الأمريكية، ومع ذلك قد يسعى ترامب إلى الجمع بين الترغيب المتمثل في تخفيف العقوبات والترهيب بعقوبات إضافية، لحث روسيا على المساعدة في خفض الأسعار. وفي الوقت الذي كان ترامب يناقش أسعار النفط مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، باعت شركة النفط الروسية "روسنفت" أصولها الفنزويلية إلى شركة روسية أخرى، ربما تمهيداً لرفع العقوبات الأمريكية عن ذراع شركة روسنفت التجاري، كخدمة يقدمها ترامب لحفظ ماء وجه بوتين وإتاحة التراجع.
إنتاج النفط صناعة منفصلة
توجد أدوات أفضل للتعامل مع توابع انخفاض أسعار النفط، إذ يجب أن تتضمن الجولة التالية من التحفيز الاقتصادي مزيداً من المساعدات الإضافية للعمال والولايات الأمريكية والبلديات التي تضررت من الانكماش. وعلى المدى الطويل، يجب على صناع السياسات بذل المزيد من الجهد لمساعدة المناطق المنتجة للنفط في إدارة اعتمادها على إيرادات متقلبة كتلك القادمة من قطاع النفط الصخري في أوجه الإنفاق العام، ومنها المدارس والبنى التحتية، وفقاً لما توصي به مراكز أبحاث الطاقة، مثل "مركز سياسة الطاقة العالمية" Center on Global Energy Policy، ومؤسسة "موارد من أجل المستقبل" Resources for the Future.
والأهم من ذلك، أنه بدلاً من مجرد التدافع استجابةً للأزمة المباشرة يجب على صناع السياسات اتخاذ خطوات طويلة الأمد لتقليل تعرض الولايات المتحدة لخطر الدورات الحتمية في أسعار النفط -ولتقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون- عن طريق خفض استهلاك النفط. ومن المؤسف، أنه في الوقت نفسه الذي كان البيت الأبيض يحث السعودية على التراجع للمساعدة في إنقاذ صناعة النفط الأمريكية، كان يتراجع هو أيضاً لكن عن معايير اقتصاد الوقود، التي كان من شأنها أن تساعد في تقليل الاعتماد على النفط في أمريكا.
في نهاية المطاف، هذا الوباء سيمر، وسيتعافى الاقتصاد، ومع ذلك، فإن أحد الدروس المهمة التي ينبغي الانتباه إليها من الانهيار الحاد في أسعار النفط في إثر أزمة كورونا هو أن ميزات كونك أكبر منتج للنفط في العالم تنطوي أيضاً على مخاطر ونقاط ضعف في طياتها. وفي النهاية، قد يعلن اجتماع مجموعة العشرين يوم الجمعة عن تعاونٍ تاريخي بين السعودية وروسيا والولايات المتحدة، لكنها ستكون مسرحية. ومع ذلك، يظل الخيار الأفضل لواشنطن في الوقت الحالي هو التواصل مع الرياض (وموسكو) وإفساح المجال أمام قوى السوق كي تعمل عملها في تخفيض الإنتاج وحفظ استقرار الأسعار داخل الولايات المتحدة.