لو لم نكُن في عصر التباعد الاجتماعي، لأوقفهم الناس بالشوارع لالتقاط صور السيلفي معهم. ولكنهم يحصلون بدلاً من ذلك على رسائل رائعة عبر الشبكات الاجتماعية. في حين يظهر آخرون في التلفاز يومياً.
فالمشاهير الجُدد الذين ظهروا في أنحاء أوروبا، بالتزامن مع انتشار فيروس كورونا في القارة، ليسوا من الممثلين أو المُطربين أو الساسة؛ بل هم علماء الأوبئة والفيروسات الذين باتوا من الأسماء المعروفة، بعد أن قضوا الشطر الأعظم من حياتهم بهويةٍ مجهولة افتراضياً، بحسب تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
البحث عن الخبراء
وفي حين يُعالج الممرضون والأطباء مرضاهم على الخطوط الأمامية، بات علماء الأوبئة والفيروسات أكثر مصادر المعلومات موثوقيةً وسط عصرٍ يسوده الشك العميق وتباين السياسات وتضخُم التضليل، وذلك بعد أن قضوا حيواتهم المهنية داخل قاعات المحاضرات والمعامل.
وبعد فترةٍ طويلة من رد الفعل الشعبي العنيف ضد الخبراء، والذي عزز سيلاً من التغيير السياسي وأدى إلى اندلاع الحروب الثقافية في غالبية أنحاء العالم المُتقدم؛ تحولت المجتمعات التي حاصرتها عزلة فيروس كورونا -وتبحث يائسةً عن الحقائق- إلى الخبراء بحثاً عن الإجابات، مما جعل الخبراء هم الأبطال الوطنيين.
وقالت إلين كينسيلا، أستاذة علم النفس بجامعة ليمريك بأيرلندا، والتي بحثت في دور الأبطال داخل المجتمع: "في أثناء الأزمة يتصدر الأبطال الواجهة، لأن احتياجاتنا الإنسانية تصير مُهددة، وهذا يشمل حاجتنا إلى اليقين، والمعنى، والهدف، والثقة بالذات، وشعور الانتماء إلى الآخرين. ويُساعد الأبطال في تلبية بعض تلك الاحتياجات الإنسانية، جزئياً على الأقل".
ونادراً ما يتمتع العلماء الأبطال، الصاعدون على خلفية أزمة فيروس كورونا، بالكاريزما الواضحة التي تُميز القادة السياسيين. لكنهم يُظهرون خبرات عميقة، وبعض التعاطف أحياناً.
ففي إيطاليا التي دمرها الفيروس أكثر من أي دولة أخرى حتى الآن، استبدل مُدير قسم الأمراض المُعدية بمستشفى جامعة لويجي ساكو في ميلان ماسيمو غالي، معطفه الطبي ببدلة، وتقبَّل حقيقة أنه "سيتعرض للظهور في وسائل الإعلام بشكلٍ مُفرط"؛ من أجل تصحيح الأمور، على حد تعبيره في أحد البرامج الحوارية.
قصة العالِم العجوز
وسرعان ما تحوَّل الأستاذ العجوز الذي يرتدي النظارات إلى وجهٍ مألوف في البرامج الإخبارية التلفزيونية بإيطاليا، حيث يُقدم تحديثات لا تشوبها شائبة حول العدو غير المألوف.
ووصف التباعد الاجتماعي بأنه "أُم المعارك".
كما أعرب عن قلقه حيال المخاطر الكامنة في مسألة العائلات مُتعددة الأجيال بإيطاليا، وهي رسالةٌ قوية لقناعته بأن العدوى في المنزل باتت السبب الرئيسي لانتشار الفيروس بالبلاد.
وحين لا يظهر على شاشات التلفاز، يتسلل عائداً إلى مختبره ليُساعد الزملاء في الأبحاث.
وفي اليونان، التي نجت حتى الآن من تفشي الفيروس على نطاقٍ واسع، يستمع الجميع إلى الرجل النحيف ذي الشعر الرمادي، الأستاذ سوتيريوس تسيودراس، وهو يُخاطب الأمة يومياً في السادسة مساءً.
يستخدم تسيودراس أسلوباً سهلاً في توصيل المعلومة. ويعتمد بشكلٍ كبير على ملاحظته وهو يُطلِع البلاد على الأعداد الجديدة للإصابات المُؤكدة، والحالات المنقولة إلى المستشفى، وحالات الوفاة. ويُقدم من حينٍ لآخر بعض النصائح العملية، مثل حل استخدام أربع ملاعق صغيرة من المبيّض مع لترٍ من الماء ورشّه على الأسطح لتطهيرها. كما يُسارع إلى تفنيد المعلومات الخاطئة: مثل أن المسؤولين لا يُدركون تأثير الإيبوبروفين على المصابين بالفيروس.
وتسيودراس هو رئيس فريق الحكومة اليونانية المُكلف الاستجابة الطبية لفيروس كورونا، وهو والدٌ مُتدين لسبعة أطفال، كما يتمتع بسيرةٍ مهنية طويلة في دراسة الأمراض المُعدية بجامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وغيرهما من المؤسسات العلمية. لذا فهو يحظى بهذه المكانة عن جدارةٍ واستحقاق.
وبصراحة، فقد حشد البلاد وراء التدابير التقييدية الأكثر استباقية في أوروبا، ويبدو أن تلك التدابير ناجحة حتى الآن لأن اليونان، لم تشهد سوى 68 حالة وفاة بسبب الفيروس منذ تفشيه. وعلى النقيض نجد أن بلجيكا التي تمتلك تعداد سكان مُشابهاً، يزيد قليلاً على 10 ملايين نسمة، سجلت 1.283 حالة وفاة.
ويتميز تسيودراس بمجموعةٍ من السمات الرئيسية التي تجعله جذاباً في أوساط الجماهير القلقة، وفقاً لثيو أناغنوستوبولوس مُؤسس شركة SciCo الاستشارية للاتصالات العلمية. إذ قال ثيو إنه يبدو شخصاً عادياً يتمتع بخبرات مُثبتة، فضلاً عن كونه مُتعاطفاً.
وأردف ثيو: "إنه واحدٌ منا. فهو مُتواضع ودمث الخلق وعطوف، لكنه من أكبر الخبراء بلا شك".
عالِم الأوبئة الألماني
في حين برز الدكتور كريستيان دروستين بوصفه صوت المنطق العلمي في ألمانيا، حيث يُمكن الشعور بتأثير الفيروس الكبير رغم الانخفاض النسبي في مُعدل الوفيات. ولم يسبق أن سعى إلى الأضواء، رغم أنه يحظى باحترامٍ قديم؛ لعمق معرفته وجاهزيته لمشاركة تلك المعرفة مع أقرانه. لذا وصفه زملاؤه بأنه بطلٌ غير مُحتمل.
ولكن طوال أسابيع أصبح دروستين، رئيس علماء الفيروسات في مستشفى جامعة شاريتيه البحثية ببرلين، واحداً من أكثر ضيوف البرامج الحوارية المطلوبين ونجماً في بودكاست منذ فبراير/شباط. وخلال ظهوره، يُقدم تقييمات قائمة على الحقائق للمخاطر التي تُواجهها ألمانيا بناءً على العلم الذي توصل إليه فيما يتعلق بفيروس السارس الذي درسه لسنوات.
كما طلبت المستشارة أنجيلا ميركل ووزير صحتها ينس شبان من الدكتور دروستين مشورته بشأن الاستجابة السياسية للأزمة، رغم أنه أوضح سريعاً لصحيفة Die Zeit الألمانية الأسبوعية قائلاً: "أنا لست سياسياً، أنا عالِم. يُسعدني شرح ما أعرفه. إذ يجب إيصال النتائج العلمية إلى الجميع بشفافية، حتى نمتلك جميعاً فكرةً عامة عن الوضع، ولكنني صريحٌ كذلك بشأن الأمور التي أجهلها".
بينما شهدت بعض الدول تشويه سمعة العلماء وشيطنتهم. ففي الولايات المتحدة تحوَّل الدكتور أنثوني فوسي، أخصائي المناعة المرموق الذي يرأس المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، إلى وضعية المشاهير بين ليلةٍ وضُحاها.
لكن الدكتور فوشي، أشد المدافعين عن قواعد التباعد الاجتماعي في إدارة ترامب، حظي كذلك بنقدٍ لاذع من أعضاء اليمين المُتشدد الذين اتهموه زوراً بمحاولة تقويض مكانة الرئيس ترامب. كما وافقت وزارة الصحة والخدمات الإنسانية على طلب وزارة العدل توفير عملاء إضافيين؛ لحمايته بعد تلقيه تهديدات.
وكما هو الحال مع الأبطال كافةً الذين يجري انتقاؤهم من رحم المجتمع في خضم الأزمات؛ فإن بعض العلماء معرَّضون للخطر بدرجةٍ مُؤلمة، إذ يمرضون في أثناء تأدية واجباتهم.
إسبانيا لديها علماؤها أيضاً
أما في إسبانيا، أكثر بلدان أوروبا تضرراً بعد إيطاليا، فقدم الدكتور فرناندو سيمون نموذج شخصية البطل العلمي المحبوب. إذ إنه مُدير مركز الطوارئ الصحية في إسبانيا الذي يُقدم تحديثات ورؤى للأزمة بصوته الخشن كأنه مستشارٌ للمواطنين القلقين، الذي يُلقون عليه وابلاً من الأسئلة عبر الإنترنت، تشمل تساؤلات عما إذا كان عليهم خلع أحذيتهم قبل دخول منازلهم (ولكنه نصحهم بأنه لا داعي لذلك).
واكتشف الدكتور سيمون إصابته بالفيروس خلال عطلة نهاية الأسبوع؛ مما أسفر عن سيلٍ من التعاطف والأمنيات الطيبة على مستوى البلاد.
وفي بريطانيا نجد أن نيل فيرغسون، عالِم الرياضيات والأوبئة الذي اشتهر بين ليلةٍ وضحاها بين الناس؛ لنمذجته انتشار وتفشي المرض، أُصيب بالفيروس في مارس/آذار.
وشجع عمله الحكومة البريطانية على تكثيف الإجراءات التقييدية لاحتواء المرض، بعد أن تبنت أول الأمر نهجاً أكثر استرخاءً يُروج لفكرة مساعدة الناس على تطوير المناعة عن طريق تعريض نسبةٍ كبيرة من السكان للفيروس.
ونتيجة عدم اعتيادهم الاهتمام الكبير بكل كلمة وفعل صادر عنهم؛ وجد بعض معشوقي الجماهير الجدد أنفسهم في مواجهة نقدٍ وحشي.
إذ انتقد بعض اليونانيين الدكتور تسيودراس بعد نشر صور ظهر فيها واقفاً على منبر كنيسة تبدو فارغة، رغم أن الحكومة اليونانية طالبت بتعليق القداسات، لأن الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية لم تمتثل طواعيةً لتدابير العزل والتباعد الاجتماعي.
في حين انتُقِدَ الدكتور دروستين بألمانيا، لأنه عارض أول الأمر فكرة إغلاق المدارس ومراكز رعاية الأطفال، وهي وجهة النظر التي غيَّرها بعد سيلٍ من الرسائل التي وصلت له، وبعضها من زملاء شاركوا معه البيانات الجديدة.
وبرغم الزلّات، قالت إلين إن أولئك الأبطال يُوفرون "وضوح الرؤية خلال الأوقات المُربكة"، وهذا يشمل الجانب الأخلاقي.
وحين كان الرئيس ترامب وغيره من الزعماء يُناقشون علانيةً فائدة إغلاق المدن، بسبب التكلفة الاقتصادية المدمرة للفكرة في الشهر الماضي، تطرق الدكتور تسيودراس إلى المسألة مباشرةً.
فبعد أن قدَّم تحديثه اليومي، خرج عن النص وهو ينظر إلى يديه المُتشابكتين في عصبية.
وقال: "كتب لي أحد معارفي قائلاً إننا نُحدث كثيراً من الضجة حول مجموعة من المواطنين المُسنين الذين أعجزتهم الأمراض المزمنة. لكن معجزة العلوم الطبية في عام 2020 تكمُن في تمديد فترة الحياة عالية الجودة لأولئك الأشخاص الذين يُمثلون أمهاتنا وآباءنا وأجدادنا".
ثم اختنق صوته وهو يقول: "ولا يمكن أن نعيش، أو نمتلك هوية، من دونهم".