هل من الغريب أن يتبنأ مؤلف فيلم Contagion (عدوى) بما يحدث، بدرجة كبيرة جداً، قبل قرابة عشرة أعوام؟ بعيداً عن نظرية المؤامرة، جاء الفيلم بعد قصة إنفلونزا الخنازير التي ربما تكون قد شجعت على الاستمرار في الإعداد للفيلم وإخراجه وإنتاجه، ولكن مخرجه بدأ قبل ذلك بأعوام، وبجهودٍ تجاوزت الجانبين، الفني والإخراجي، وأخذت طابعاً علمياً بالتعاون مع علماء وخبراء معروفين في مجال مكافحة الأوبئة، وحتى مع مراكز دراسات وأبحاث طبية.
يقول دبليو أيان ليبكين، أحد العلماء الذين استعان بهم مخرج الفيلم ستيفن سودربيرغ، "الرسالة الحقيقية للفيلم سياسية: لا تخفّض ميزانيات أبحاث الأمراض وأنظمة الإنذار المبكر". وربما هذا يذكّرنا بالتغريدة الغاضبة لباحثة إسبانية في علوم الأحياء (تعمل ضمن فريق متخصص بمكافحة الفيروسات) تقول: "تعطون لاعب كرة قدم مليون يورو شهرياً راتباً له بينما يكون أجر باحث أو عالم في البيولوجيا 1300 يورو.. إذا اذهبوا إلى رونالدو كي يجد لكم علاجاً من فيروس كورونا".
قد لا يكون فيلم "عدوى" الوحيد الذي تنبأ ببعض الأزمات أو الكوارث البشرية، فهنالك روايات تاريخية عديدة معروفة، مثل روايات جورج أورويل (بالطبع)، وكتب لمفكرين غربيين وحتى عرب، وصلوا إلى نبوءات أو توقعات قريبة مما حدث في عقود لاحقة عليهم بعقود قادمة بعيدة. ومن ذلك رواية واسيني الأعرج "حكاية العربي الأخير 2084″، والتي ليس من الضروري أن تتكرّر أو تحدث سرديتها أو تفاصيلها، لكن ثيمتها الرئيسة تتحدّث عن العرب بوصفهم "شعوبا آيلة للزوال"، وعن مرحلة تذهب فيها الدول والمجتمعات العربية إلى حالة من التفكك الكامل، وانتهاء عصر الدولة لصالح القبائل والتجمعات المتناحرة على الماء والحياة الطبيعية البسيطة. والرواية، وإن كانت خيالية في فكرتها الجوهرية، بنيت على استقراء للواقع العربي وتفكك الدولة لصالح الانتماءات الأولية، والاستراتيجيات الدولية في المنطقة، وذلك كله يضعه واسيني بقوالب أسماء رمزية، وإن كانت تشي بالدول المقصودة منها.
ما دمنا في السياق العربي، فإنّ كورونا جاء عاملاً جديداً ليكشف أن أغلب الحكومات العربية ما تزال غير قادرة على التعامل مع التحدّيات، لأنّها تتعامل مع شكل ما يحدث بعقلية قديمة، من ذلك إصرار حكومات عديدة على إنكار وجود حالات الإصابة بكورونا، وكأنّ ذلك نجاح كبير، أو ميزة على دول عظمى متقدّمة عالمياً في الرعاية والمؤسسات الصحية، حتى بدأت هذه الحكومات تعترف بوجود حالات، وإن كان المتوقع أن الوضع أسوأ بكثير مما هو معلن.
قد لا يكون الأمر، بالضرورة، مرتبطاً بإخفاء معلومات، وغياب الشفافية، وهو أمر طبيعي في العالم العربي، بقدر ما يكون عجزاً واضحاً في منظومة الرعاية الصحية والرقابة والوقاية عن اكتشاف الحالات، والتعامل مع هذا التحدي الكبير والخطير، وهو أمرٌ تواجه دولٌ عظمى صعوباتٍ معه، فكيف الحال بالعالم العربي؟ لكن الحديث، هنا، عن العقلية الرسمية التي لا ترى حجم التحدّيات والتهديدات، وتتعامل مع الكوارث بصورة بدائية، وهو الأمر الذي اتسمت فيه سياسات تلك الحكومات مع كورونا، بدايةً، قبل أن تبدأ الصورة الوهمية عن "خلو" بعض الدول من هذا الفيروس تتداعى.
لا تقتصر تداعيات كورونا، عربياً، على الجانب الصحّي، فعلى الأغلب ستكون هنالك أبعاد اقتصادية وسياسية كبيرة، فالسياسات المتبعة لمواجهة المرض ستنعكس، على المديين القصير والبعيد، على الأوضاع الاقتصادية المتدهورة أصلاً، وستزيد الأمور سوءاً لدى الطبقات الوسطى والفقيرة، وسيرتفع منسوب الأزمات الاقتصادية والمالية، وتتجذّر وتتعمق الأزمات السياسية، ما يعزّز من حالة الغضب والاحتقان ومطالب الشباب العربي التي تجددت مع موجة الربيع العربي الثانية في السودان والجزائر ولبنان والعراق، بالتغيير والحصول على فرص أفضل في الحياة، والمشاركة في عملية صنع القرار، ويتبدّد جو التخويف السياسي والقمع الذي عادت حكوماتٌ عربيةٌ لتمارسه.
إذا كان لنا أن نتوقع، في سياق الحديث عن النبوءات، فإنّ ما يظهره إلى اليوم العام الحالي، 2020، هو أنه سيكون مغايراً، أو نقطة تحول في مصائر الشعوب العربية، ربما بدأ باحتجاجاتٍ وثورات، ثم تنامي الأزمة المالية في بعض الدول، والآن كورونا، والصراعات المسلحة والاحتكاكات في العراق وسورية، لكنّه على الأغلب ما يزال لم يبح بأسراره كلها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.