تردد مصطلح "حرب أسعار النفط" كثيراً في الأيام الأخيرة، جنباً إلى جنب مع ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والأمريكي دونالد ترامب، فما قصة تلك الحرب؟ وما دخل وباء كورونا بها؟ وما حسابات كل طرف في تلك المعركة التي تؤثر على العالم بأثره؟
كيف بدأت القصة؟
يتم تحديد أسعار برميل النفط بواسطة كبار المنتجين في العالم وعلى رأسهم منظمة أوبك بقيادة السعودية من جهة وروسيا من جهة أخرى، وقد كان هناك اتفاق قائم بين الطرفين منذ عام 2016 يُعرف باتفاق "أوبك+"، يتم من خلاله تخفيض أو زيادة الإنتاج على حسب معطيات العرض والطلب في السوق العالمي، بحيث يكون متوسط سعر برميل النفط في حدود 65 دولاراً صعوداً أو هبوطاً بهامش 5 دولارات تقريباً.
في ضوء هذا الاتفاق، إذا ما حدثت أزمة سياسية أو كارثة طبيعية مثلاً تؤثر على الإنتاج بإحدى المناطق فيحدث ارتفاع كبير في الأسعار، تتفق "أوبك+ روسيا" على زيادة الإنتاج بما يعوض الانخفاض المتوقع، والعكس صحيح، بمعنى الاتفاق على خفض الإنتاج في حالة تراجع الطلب لأي سبب من الأسباب، وظل هذا الاتفاق سارياً بصورة معقولة حتى مطلع هذا العام تقريباً.
مع بداية أخبار فيروس كورونا في الصين وتحوله لاحقاً إلى وباء عالمي وتأثير ذلك على الطلب عالمياً على النفط، تراجعت الأسعار حتى مستوى 50 دولاراً للبرميل، وبدأت المناقشات بين "أوبك + روسيا" للاتفاق على تخفيض الإنتاج بنهاية مارس/آذار الجاري (حصة الإنتاج تتم مراجعتها كل ربع سنة)، وكان هناك تردد روسي معلن في تخفيض الإنتاج هذه المرة.
وفجأة انهارت المحادثات بين الطرفين في جنيف الجمعة 6 مارس/آذار الجاري، وأعلنت روسيا على لسان وزير الطاقة أمام الصحفيين، أنه بداية من الأول من أبريل/نيسان، سيقوم كل منتج للنفط بالإنتاج والبيع بشكل منفرد، وكان الرد السعودي مفاجئاً، بل مذهلاً؛ أعلنت السعودية تخفيض أسعار عقود مارس/آذار الجاري بنحو 30% تقريباً، وزيادة الإنتاج بداية من الأول من أبريل/نيسان المقبل.
لماذا رفضت روسيا تخفيض الإنتاج؟
قبل أن نتوقف عند خلفيات الموقف السعودي، نسرد الأسباب التي تقف وراء الموقف الروسي؛ ترى موسكو أن خفض الإنتاج يصب في مصلحة شركات الخام الصخري الأمريكية التي استفادت بصورة كبيرة من اتفاق "أوبك+ روسيا" منذ إبرامه قبل نحو أربع سنوات، حيث أصبحت حصتها من السوق العالمية أكبر مع كل تخفيض للإنتاج.
وقصة صناعة النفط الصخري الأمريكي في حد ذاتها تستحق تقريراً منفصلاً، لكن باختصار نقول إن ذلك القطاع قد حقق مكاسب كبيرة بالفعل منذ عام 2016، وجعل الولايات المتحدة تحتل الصدارة عالمياً في إنتاج النفط، العام الماضي، بفعل خفض الإنتاج من "أوبك+ روسيا"، وهذه النقطة بالطبع أثارت غضب مديري شركات النفط الروسية ومنها شركة روسنفت التي يديرها سيتشين المقرب جداً من الرئيس فلاديمير بوتين، وهو من كان يتولى التفاوض في جنيف حين انهارت المفاوضات.
بالنسبة لسيتشين (أحد القوميين الروس شأنه شأن القيصر بوتين)، ليس منطقياً خفض الإنتاج، الذي يصب في مصلحة منتجي الخام الصخري الأمريكيين، حتى لو تسبب ذلك في خسارة لروسيا نفسها، وقد حاول سيتشين كثيراً من قبل، إقناع بوتين برفض خفض الإنتاج دون جدوى، فماذا تغير هذه المرة؟
الأسباب الأخرى وراء الموقف الروسي مرتبطة كذلك بالرد على العقوبات الأمريكية التي استهدفت شركات طاقة روسية ومنها "روسنفت"، وهي العقوبات التي لم تكن واشنطن ستجرؤ على فرضها لولا طفرة الإنتاج من الخام الصخري، بحسب تقرير لشبكة سي إن إن.
وهناك سبب آخر وهو إعلان شركات أمريكية، في يناير/كانون الثاني الماضي، عن توقيع عقود مع الصين لتوريد النفط إليها، وهذا أمر أزعج روسيا بالطبع، وربما هو أحد العوامل الحاسمة التي جعلت بوتين يغير رأيه ويستمع إلى سيتشين أخيراً، فيرفض خفض الإنتاج هذه المرة.
ماذا عن دوافع ولي العهد؟
إذا كانت روسيا رفضت خفض الإنتاج حتى لا تستفيد الشركات الأمريكية، يظل رد الفعل السعودي بحاجة لتفسيرات؛ فالمملكة تعتمد بصورة أساسية على دخلها من تصدير النفط في موازنتها العامة، وتخفيض الأسعار بهذه الصورة المفاجئة يضرها بشدة، وفي هذا الصدد هناك ما يشبه الإجماع بين المراقبين على أن قرار ولي العهد السعودي إشعال حرب أسعار مع روسيا نابع بالأساس من طبيعة الأمير الشاب المندفعة.
لكن هناك عاملاً رئيسياً وراء القرار السعودي يتمثل في تكلفة إنتاج الخام وهي الأقل عالمياً، وهو ما يجعل الرياض تتحمل انخفاض أسعار النفط، وقد أفادت تقارير بأن توجيهات من ولي العهد وصلت بالفعل، في الأيام الماضية، للوزارات والهيئات الحكومية بتخفيض ميزانياتها والاستعداد لأن يصل سعر برميل النفط إلى ما دون عشرين دولاراً، وهو ما يشير إلى أن حرب الأسعار التي بدأها ولي العهد، في بدايتها ولن يتراجع عنها.
وأشار تقرير لشبكة CNN الأمريكية، إلى أن "الأمير القوي لن يخجل من أي مواجهةٍ إذا وجد أنَّ مصالحه ومصالح مملكته مهددة. وفي الواقع، غالباً ما يبدو أنَّ رغبته الأساسية الاعتيادية هي الهيمنة".
لكن على الجانب الآخر، ليس من المتوقع أن يتراجع بوتين أيضاً عن موقفه، بعد أن أصبحت المواجهة علنية، فالقيصر لن يقبل الهزيمة مهما كلفه الأمر، إضافة إلى أن روسيا الآن في وضع يسمح لها بتحمُّل تبعات حرب الأسعار، وربما بصورة أكبر من المملكة، والسبب هو أن الاقتصاد الروسي يعتمد على عائدات النفط بنسبة 37% فقط، مقابل أكثر من 67% للسعودية.
ماذا عن موقف ترامب؟
ربما يكون ترامب الحلقة الأضعف في هذه المواجهة بين بوتين والأمير الشاب، فحرب الأسعار هذه تضع صناعة إنتاج النفط الصخري بأكملها على المحك، وبدأت بالفعل الشركات الأمريكية الصغيرة والمتوسطة في التمهيد لإعلان إفلاسها، والكبيرة في القطاع بدأت الحديث عن تخفيض النفقات وتسريح عمالة بنسب تصل إلى 70%، بحسب تقرير لـ"سي إن إن".
ترامب، الذي يواجه انتقادات عنيفة بسبب تعامله مع وباء كورونا في وقت حساس قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، أمر إدارته بشراء النفط بكميات كبيرة لصالح المخزون الاحتياطي الاستراتيجي، بغرض وقف انهيار الأسعار حتى ينقذ شركات الخام الصخري الأمريكية، لكن الإجراء بالقطع لن يكون كافياً إذا ما استمرت الحرب بين السعودية وروسيا وواصلت الأسعار انخفاضها، بحسب خبراء الطاقة الأمريكيين.
المخزون الاحتياطي الاستراتيجي الذي أعلن ترامب أنه سيشتري النفط ويخزنه من خلاله، تديره وزارة الطاقة الأمريكية، وهو محفوظ في خزانات تحت الأرض تخضع لحراسة مشددة، على سواحل ولايتي تكساس ولويزيانا.
ويبلغ الاحتياطي الأمريكي، وهو الأكبر من نوعه في العالم، نحو 645 مليون برميل من النفط، وفقاً لما يقوله موقع الوزارة الإلكتروني، ويتألف من 395 مليون برميل من الخام الثقيل عالي الكبريت، و250 مليون برميل من الخام الأمريكي الخفيف، ويمكن أن يكفي الأسواق الأمريكية نحو 115 يوماً في حال السحب منه (القصة الكاملة لذلك المخزون في هذا الرابط).
الموقف المتأزم بالنسبة لشركات النفط الأمريكية، التي يوجد أغلبها في ولايات جمهورية بالأساس مثل تكساس، يمثل تهديداً انتخابياً كبيراً لترامب، لذلك يفكر بالفعل في تقديم مساعدات فيدرالية لتلك الشركات تساعدها على تفادي الأزمة، لكن أصحاب تلك الشركات يرفضون الفكرة من حيث المبدأ، علاوة على الصعوبة البالغة التي تواجه تنفيذها من الناحية السياسية والقدرة على تسويقها جماهيرياً في عام الانتخابات.
تلخيص القصة بالأرقام
إنتاج برميل النفط يكلف السعودية أقل من 9 دولارات، ويكلف روسيا أكثر من 19 دولاراً، في حين يكلف الولايات المتحدة أكثر من 23 دولاراً، ومن ثم لو انخفض سعر البرميل إلى 10 دولارات فستظل السعودية في خانة الرابح، في حين ستكون روسيا خاسرة، والشركات الأمريكية خاسرة أكثر بالطبع.
لكن هناك عاملاً أكثر حسماً يتعلق بطبيعة قطاع إنتاج النفط الصخري الأمريكي، وهي أن ذلك القطاع يعتمد على القروض الضخمة بشكل أساسي في عمليات الحفر والإنتاج، وهو ما يعني الإفلاس الفوري وتوقف الإنتاج، وهذا ما يراهن عليه بوتين.
وليس من المتوقع أن يقف ترامب مكتوف الأيدي وهو يشاهد السيناريو الروسي يكتمل، وهو ما قد يعني خسارته في الانتخابات الرئاسية المقبلة، خصوصاً أن كارثة وباء كورونا مرشحة للتفاقم في الأسابيع وربما الأشهر المقبلة، ومن ثم سيكون على ترامب إما تكثيف الضغوط على ولي العهد السعودي كي يوقف حرب الأسعار (وهذا سيناريو يبدو مستبعداً، لسببين: الأول طبيعة ولي العهد، والثاني تردد ترامب نفسه في أن يخرج القيصر بوتين منتصراً، ببساطة لأن هذا لن يحل مشكلة الشركات الأمريكية)، وإما أن يضغط على بوتين في ملفات أخرى بصورة يكون ضررها أكبر من أن يواصل القيصر عناده.