منذ بضعة أيام نشر محمود منشوراً على صفحته بفيسبوك يبشر فيه الأصدقاء والعامة الذين يمكن أن يمروا عبر بحثهم أو من خلال أصدقاء محمود على منشوره. كتب يبشرهم بأنه ضرب موعداً مع أهل خطيبته لزواجه وحددوا المكان في المسجد الجامع بالحي في قاعة تعد الأفخم بالمنطقة على أن يكون الفرح في فندق خمس نجوم في نفس الليلة. ذلك الشاب المحبوب لاقى العديد من الإعجابات على المنشور، مع عدد أكبر من التهاني والتبريكات مصحوبة بالدعوات بالرفاء والبنين وتأليف القلوب بينه وبين محبوبته التي اختار.
بعد أيام من هذا المنشور عاد محمود ليصدم أصدقاءه والكافة بمنشور آخر يعلن فيه تأجيل العرس معللاً ذلك بخطر فيروس كورونا، تاركاً الجميع في حيرة، هل أصيب، أم أصيبت العروس، أم أحد من أهلهما، أم هي احتياطات عامة أرادها محمود خوفاً من تزاحم المدعوين وحمل أحدهم الفيروس؟
في روايته التي نال عليها جائزة نوبل للآداب، الحب في زمن الكوليرا، خط غابرييل ماركيز، قصة حب عظيمة بين شاب وشابة استمرت منذ مراهقتهما إلى ما بعد السبعين في ظل ظروف سياسية متلاطمة تمثلت في حروب أهلية وتحولات اقتصادية، أثرت في سير علاقتهما، حيث تزوجت المحبوبة من طبيب مشهور تاركة عامل التلغراف الفقير الذي عاهدته أن تبقى معه أبداً ما بقيت، لكن ذلك لم يثن الشاب الفقير عن النضال من أجل حبه، واتخذ من محاولاته نحو الشهرة والمال طريقاً ليكون كفأً لمحبوبته -التي تعيش في كنف طبيب لامع- متمسكاً بحبها على مدى 50 عاماً ليتقدم لها في نفس اليوم الذي توفي فيه زوجها.
وعلى الرغم من أنها طردته، لكنه تمسك ولم يفقد الأمل، محولاً الطلب إلى صداقة بعد أن شارفا على السبعين من عمرهما وبات طلب الزواج مستحيلاً عند البعض، ويرسل البطل الرسائل للحبيبة تضمنت تأملات في الحياة والزواج والشيخوخة وتقبل الموت بطريقة أفضل مع أنيس -حتى ولو كان صديقاً- من الموت وحيداً، وتقبل الحبيبة به صديقاً مع تمسكه بحبها لتتباين العلاقة بين حبيب وصديق، ليختم ماركيز مشهد روايته الأخيرة في سفينة نهرية حيث يدعو البطل حبيبته لرحلة فتوافق، وهناك يقترب منها أكثر وتدرك أنها تحبه، فيتخلص البطل من المسافرين الآخرين بخدعة أن السفينة عليها وباء الكوليرا لكي لا تنتهي الرحلة ويكون الفراق ويثبت أنها خدعة غير موفقة مع الحجر الصحي وتدخل السلطات، وتنتهي الرواية والسفينة تعبر النهر ذهاباً وجيئة رافعة علم الوباء الأصفر دون أن ترسو إلا للتزود بوقود فيما تضم عش الحبيبين اللذين لا يباليان بكبر عمرها ويقرران أنهما الآن في مرحلة أفضل لوصول مرحلة ما وراء الحب وهي الحب لذات الحب.
لكن لماذا اختار ماركيز الكوليرا كخدعة لإخلاء السفينة، ولماذا استجاب ركابها سريعاً للإشاعة؟
ذلك أن العالم مر بفترات وطفرات من الأوبئة قضت على ملايين البشر، الوباء فزاعة العالم منذ أن بدأ العالم التأريخ، وقد يكون هناك حقب لم نعرفها أودت بالعالم وقلصت من أعداد البشر. في تقريره الذي نشره موقع "بيزنس إنسايدر" الأمريكي، قال الكاتب رايدر كيمبول إن تفشي الطاعون وضع حداً لفترة حكم إمبراطور بيزنطة في القرن السادس جستنيان الأول، وقتل الوباء حينها بين 30 إلى 50 مليون شخص، بما يعادل نصف سكان العالم في ذلك الوقت.
وبين عامي 1347 و1351، انتشر الطاعون -الذي عُرف في وقت لاحق باسم "الموت الأسود"- مخلفاً نحو 25 مليون قتيل، هذا ما أحصته أوروبا فقط. وربما تكون في آسيا وخاصة الصين أعداد أكبر، مع ذلك فإن المراقبين يقولون إن هذا الوباء على قدر وحشيته وفّر فرص عمل كثيرة انعكست على مستوى المعيشة!
وخلال القرنين الخامس عشر والسابع عشر أودى الجدري بحياة قرابة 20 مليون شخص، أي نحو 90% من السكان في الأمريكتين. وهو ما ساعد الأوروبيين على استعمار الأمريكتين وتغيير تاريخهما.
وبين عامي 1817 – 1823 أودى وباء الكوليرا بحياة الملايين قبل أن تتفشى الإنفلونزا الإسبانية في عام 1918 لتقضي على 50 مليوناً على مستوى العالم. ليعود الفيروس بعد 50 عاماً متحوراً ليقضي على مليون شخص في العالم بين عامي 1968 – 1970 سمي وقتها إنفلونزا هونغ كونغ. ليظهر بعدها الجيل الأول من فيروس كورونا بين عامي 2002- 2003 وانتشر سريعاً في 26 دولة، وأصاب أكثر من 8000 شخص وقتل 774 منهم، ومع اختفاء كورونا الأول ظهرت إنفلونزا الخنازير ثم إيبولا بين عام 2009 و 2019 مزهقة أرواح 575 ألفاً للأول، و11 ألفاً للثاني، وعلى الرغم من أن الجيل الثاني من كورونا لم يبالغ في القتل حتى الآن لكنه الأكثر رعباً في العالم. وبالغ البعض فأضفى عليه مزيداً من الرعب ليزيد رعب العالم المرعوب بالأساس. عندما تصرح المستشارة الأمريكية بأن 60% من شعبها معرضين للإصابة بالفيروس فإن هذا يصيب الناس بالفيروس قبل أن يصل إليهم، فالرعب أكثر تأثيراً من الفيروسات نفسها، وقد تكون حالة الهلع التي يعيشها العالم الآن ترجع إلى وسائل الاتصال والسفر التي طالما تباهى الأصحاب القرن بإنجازها في قرنهم هذا.
وسواء خشي محمود أن يعقد قرانه وينصب الموائد في عرسه خوفاً من تسلل المرض، أو لمرض أحد أقاربه المقربين الذين لن يقام العرس من دونه، فإن الفيروس الذي أعلنت منظمة الصحة العالمية أنه وباء عالمي مبرر قوي لمحمود أن يؤجل عرسه، فمحمود الذي يشجع فريق ريال مدريد أصابه الوسواس بعد وضع لاعبي فريقه في الحجر الصحي.
ياسر عبد العزيز هو كاتب وباحث سياسي، حاصل على ليسانس الحقوق وماجستير في القانون العام.
كما حاز على دبلوم الإدارة والتخطيط الاستراتيجي، وهو الآن عضو مجلس إدارة رابطة الإعلاميين المصريين بالخارج في اسطنبول ومدير مركز دعم اتخاذ القرار بحزب الوسط المصري.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net