خلال السنوات الأخيرة صار نهر النيل، الذي يعد أحد عجائب عالم الطبيعة، موضوعاً لحرب كلامية آخذة في التصاعد. وهو ما يمكن أن يحوّل النهر الذي لطالما كان مصدراً للحضارة والسلام إلى مصدرٍ للصراع والفرقة.
إذ تلوح في الأفق احتمالات الحرب بعد تسع سنوات من المفاوضات المرهقة بشأن السد الذي تقيمه إثيوبيا على ضفاف النيل.
لآلاف السنين أقامت مصر حضارَتها القديمة وأساس اقتصادها الحديث، إلى جانب هوية الأمة التي تعيش على أرضها على التدفق الذي لا يمكن إيقافه لمياه نهر النيل العظيم، غير أنها الآن، ولأول مرة، مهددة بالعطش.
ويعد سد النهضة الإثيوبي الواقع بالقرب من الحدود السودانية السدَّ الأكبر في إفريقيا، وتكلفته تتجاوز 4.6 مليار دولار. وتتطلع إثيوبيا إلى أن يكون السد مصدراً للكهرباء وتعزيزاً هائلاً لاقتصادها. على الجانب الآخر، فإن مصر تشعر بالقلق من أنه إذا مُلِئ السد بسرعة كبيرة في السنوات القادمة فإن البلاد لن تحصل على حصتها العادلة من مياه النهر خلال عملية ملء خزان السد. وفي اللحظة الراهنة اكتملت 70% من أعمال بناء بالسد تقريباً، وتخطط إثيوبيا للبدء في ملئه في يوليو/تموز المقبل. ويريد الإثيوبيون ملء السد في سبع سنوات، أما مصر فتعتقد أن العملية يجب أن تستغرق من 12 إلى 21 سنة تقريباً للتخفيف من تأثير عملية التخزين على إمدادات المياه للقاهرة.
ما بعد فشل المفاوضات
بعد فشل المحادثات الثلاثية بين مصر والسودان وإثيوبيا، استقرت الدول الثلاث على الولايات المتحدة والبنك الدولي وسيطاً خارجياً للمفاوضات. وقد أسفرت جولات من المفاوضات المضنية التي قادها وزير الخزانة الأمريكي، ستيفن مونشين، عن اتفاق تعتقد الولايات المتحدة أنه "يعالج جميع القضايا بطريقة متوازنة وعادلة، مع مراعاة مصالح الدول الثلاث".
لكن إثيوبيا لم تقبل الاتفاقية الجديدة وانسحبت في اللحظات الأخيرة قبل التوقيع، إذ زعمت أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أُطلع على معلومات "غير دقيقة وغير كافية" بشأن السد. وكان رد مصر: "إذا كانت المياه تعني الكهرباء لإثيوبيا، فإنها مسألة حياة أو موت لمصر".
يكشف هذا الموقف المتأزم عن أن السد الإثيوبي بات أساساً لقضية تنافسٍ على القوة والنفوذ بين عملاقين إقليميين. يقول المصريون إن موقف إثيوبيا المتصلب يُثبت أنها لم يكن لديها من البداية أي نية للتوصل إلى تسوية عادلة. فالإثيوبيون، بحسب ما أخبرني به دبلوماسي مصري رفيع المستوى في القاهرة، "كانوا يأخذون المصريين في جولة للتلاعب واستهلاك الوقت طوال الفترة الماضية".
على الجانب الآخر، فإن رئيس الوزراء الإثيوبي الحائز جائزة نوبل، آبي أحمد، يرى بلاده قوةً صاعدة ويرغب في الاستفادة من امتلاكه الاقتصاد الأسرع نمواً في إفريقيا. ويذهب إلى أن ثمة فرصةً لقلب ميزان القوى في المنطقة، ولديه رؤية لتحويل البلد الواقع في منطقة القرن الإفريقي من بلد فقير إلى سوق نشط وجاذب للاستثمار. وقد أَخذتْ استراتيجية آبي أحمد الخاصة بالترويج لبلاده على أنها تمثل المستقبل (في مقابل مصر التي تمثل الماضي) تُثير حفيظة القاهرة وعداءها.
إن صعود إثيوبيا "العدواني"، كما تراه مصر، لم يعزز التعاون، وهو يرمي على ما يبدو إلى الهيمنة الاستراتيجية على منطقة القرن الإفريقي ونهر النيل. وقد انطلق وزير الخارجية المصري سامح شكري يوم الأحد في جولة تشمل سبع دول عربية سعياً لدعم موقف بلاده في النزاع.
ويرمز السد، بالنسبة إلى القاهرة، إلى خطة أديس أبابا الساعية إلى التقليص من قوة مصر ودورها. وتشهد إثيوبيا انتخابات عامة في وقت لاحق من هذا العام، وهو ما حوّل السد إلى قضية سياسية ساخنة؛ إذ لكي يتمكن آبي أحمد من الفوز بالأصوات فإنه يحتاج إلى أن يُظهر لناخبيه أن بإمكانه أن يكون صارماً وحازماً إذا لزم الأمر، في وقت أصبح فيه المشروع يمثل "شرف" الأمة الإثيوبية، كما يحب أحمد تسمية الأزمة.
ويشدد المسؤولون المصريون على أن بلادهم لا تنكر حق إثيوبيا في بناء السد. وقال لي الدبلوماسي المصري: "لم يكن لدينا قط أي ضغينة بشأن ازدهار إثيوبيا وحقها في التقدم، ومع ذلك لمَ يتعين على القاهرة أن تكون هي من يدفع جميع الفواتير؟".
ومصر، على الجانب الآخر، تقاتل من أجل الحفاظ على المكانة المرموقة التي لطالما حازتها في الشرق الأوسط وإفريقيا. ولا يستطيع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي تحمل العواقب السياسية لانخفاض كبير محتمل لإمدادات المياه في مصر إذا لم تُحلّ مسألة السد. إذ ستطال العواقب آلافاً من الأفدنة الزراعية، وهو ما قد يفضي إلى هجرة جماعية محتملة إلى المدن، وهو ما قد يعيد تشكيل الاقتصاد، وينتج عنه اضطرابات سياسية بسبب السخط الشعبي المرجح حدوثه.
في عام 1978، أدرك الرئيس المصري آنذاك، أنور السادات، والذي وقع معاهدة السلام لعام 1979 مع إسرائيل بعد حرب طويلة، طبيعةَ التهديد المحيط ببلاده في حالة السيطرة الأحادية على إدارة مياه نهر النيل. ودفعه اقتراح إثيوبيا بناءَ سدودٍ على النيل الأزرق إلى الإعلان بأن "المسألة الوحيدة التي يمكن أن تدفع مصر إلى خوض الحرب مرة أخرى هي المياه". وبعدها بعشر سنوات، جاء تحذير الأمين العام المصري السابق للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي، من أن "الحرب القادمة في منطقتنا ستكون على مياه نهر النيل، وليست على خلافات سياسية".
إن إمكانية خوض حربٍ على مياه النيل مترسخة بعمق في اللاوعي القومي المصري، لأن النيل دائماً ما كان مصدر الحياة في غمار حالة صحراوية غالبة. وجعلت هذه الظروف الطبيعية القاسية المصريين يدركون، طوال تاريخهم الطويل، أنه من أجل الحفاظ على جريان نهر النيل إليهم فالأمر بحاجة إلى بذل الدماء في بعض الأحيان. ولا تستطيع أي حكومة مصرية، وإن كانت في أسوأ حالاتها، أن تقف جانباً للتفرج وهي ترى شعبها يواجه الموت عطشاً.
ومع ذلك، لا تزال ثمة إمكانية لتجنب اندلاع حربٍ على المياه، وقد تأتي تلك الإمكانية من رحم الولع المهيمن على ترامب بالفوز بجائزة نوبل للسلام. إذ يمكن أن يؤدي الضغط الأمريكي على إثيوبيا إلى تنازلٍ ما في اللحظة الأخيرة، ومن ثم حل دبلوماسي للصراع، وهي النتيجة التي يأمل الجميع في تحققها.
لكن، وعلى مستوى وقتنا الحاضر، فإن إثيوبيا منعزلة، ومصر محاصرة، وهناك حرب تلوح في الأفق.
أحمد أبو دوح هو مستشار تحريري في صحيفة The Independent البريطانية، وصحفي متخصص في شؤون الشرق الأوسط.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net