قد يظن البعض أن الكتابة حِكر على ممارسيها، أو أنها خاصة بمن يهواها، ولكن الكتابة من الأشياء المشتركة بيننا جميعاً، يستطيع أي فرد أن يَخُط حروفه على ورق، وينْظم عليه مشاعره، ويقول له ما لا يستطيع لسانه البوح به، فيذرف عليه دموع الحبر، ويزينهُ بألوان الضحك، ويشكو للسطر مُـر الحياةِ وغدر الرفاقِ وطولَ السهر، ويُحدث الورق عن ألم الوحدة وشقاءِ الرحلة وعذب الأماني وصعب المراد، ويكتب الأفراح العابرة، والأحزان الحيّة، والآلام التي تركت القلب جريحاً ورحلت، يستطيع كل منا ذلك وإن اختلفت طرق التعبير؛ وبساطة المكتوب وتعقيده، وفصاحته وعاميته، وسطحيته وعمقه، فذلك لا بأس به.. وحديثي هنا لغير الكتّاب والذين لا ينوون حتى أن يصبحوا كُـتّاباً.
إن الكتابة ليست علماً يُدرس -وإن كان له قواعد- وليست خاصة بشريحة معينة مثل مهنة الطب والهندسة وغيرها؛ وإن كان امتهنها البعض لاحترافهم لها ولامتلاكهم رسالة يريدون توصيلها للمجتمعات أو عِلماً يرومون نشره ولشعورهم بالمسؤولية تجاه الناس، ولكنها عمل روحي بالمقام الأول، تُسري به النفس عن بعض ما بها.
الحقيقة أنني أنصح الجميع بالكتابة، وإن لم يكونوا كُـتّاباً، فالكتابة تصفي الذهن، وتشكل منفذاً آخر للروح والعقل، وهي أداة لتخفيف أعباء النفس، كما أنها تثقل شخصية الإنسان وترسمها أمامه؛ فيرى نفسه بعينٍ أخرى، ويرسم بقلمه أشكالاً متباينة للدُنيا؛ فيلتمس النور في عتمة الظلام، ويلاحظ الظلمة في وهج الأنوار، ويشعر بنبض الحزن وإن كان ضعيفاً، ويستبشر بذور الفرحة وإن كانت دفينة، فتتجسد مشاعره ويدرك حقيقتها، ويفهم ذاته أكثر ويتعرف على ذلك الصديق الذي بين جنبيه.
وإن تحدثنا عن أشكال الكتابة لغير الكُتاب، فإنها يمكن أن تتلخص في الخواطر والمذكرات والمواقف والقصص العابرة في الحياة؛ وتسجيل انطباعات عن أشخاص أو كتب مقروءة، وما شابه ذلك.
وبممارسة الكتابة نقف على عدة مميزات؛ عندما يسرد الإنسان مشاعره على ورق فإنها تتجسد أمامه ويعرف حقيقة شعوره بشكل أفضل، ويتعرف أيضاً على طريقة تفكيره وتناوله لأمور الحياة ومواقفها الشتى، فيقف على ثغرات في شخصيته أو مشاعره، ويدرك بعضاً من نقاط قوته التي قد تكون غائبة عن ناظريه، ويَتكَشّف للإنسان طبيعة علاقته مع الآخر وهل هذه العلاقات في إطار سليم أم لا، كما أن كتابة المواقف تضع يد المرء على دروس مستفادة سواء ايجابية يداوم عليها أو سلبية يتجنب حدوثها مرة أخرى، هذه الميزات مرتبطة بمحتوى الموضوع المكتوب ذاته؛ ولكن أيضاً هناك ميزات لفعل الكتابة نفسه بعيداً عن المحتوى.
الكتابة تعتبر فسحة خارج صخب الدنيا وضجيج الحياة، تجلس مع دفتر كي تبوح له بسرك وحزنك وفرحك وحبك وبغضك، هل للدفتر أن يلومك أو يزدري قدر ألمك..! بل سيعطيك أُذنه كل الوقت، ويستقبلك على سطوره فَرِحاً بقلمك، فهي مساحة هادئة خارج ذلك العالم اللغِط.. وبعدها تجد أنك تخففت من عناء كثير وهم ليس بالقليل، كان يخنق قلبك ويُثقِل صدرك، كنت تزدري قدره ولا تعبأ به ولكنك بكتابته علمت كم كان ثقيلاً مؤرقاً. وهذا ليس تقليلاً من الحديث مع أشخاص نحبهم؛ ولكن الكتابة شيءٌ آخر وشعور فريد ليس كمثله شيء.
في النهاية.. اكتب دائماً، اكتب طالما لديك ورقة وقلم، اكتب كلما تأمَلت وكلما تألمت، كلما فرحت وكلما انقبضت، اكتب قصصاً عابرة، انطباعاتٍ بسيطة، اكتب رسائل لأحبابك، صِف مشاعرك على ورق فلها وقعٌ يختلف عن اللسان، اكتب كلما تعثر لسانك وأجدَبَ حديثك وانحسر خطابك وتاهت كلماتك، أفرغ حروفك على ورق، قدم اعتذاراً على ورق، اعترف بحبك في رسالة، وألق بغضبك في سطور، اكتب وأنت لست كاتباً، اكتب وإن لم يقرأ لك أحد.
قالوا عن القلم:
عطفَ الحنايا عطوفٌ أنت يا قلمُ
تحنو عليّ وعند البوحِ تبتسمُ
تحنو عليّ إذا ما الفكرُ داهمني
وتسكبُ الحبرَ سحراً حين أنسجمُ
يا صاحبي لا تدعني اليوم منفرداً
إياك إياك حولي الهمُ يلتطمُ
(لقائلها)
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.