لطالما ارتبط وجود الإنسان على هذه الأرض بشيء مهم حقيقي ومطلق، ألا وهو فن العمارة وتطبيقاته. هذا الفن هو الذي يجعل حياة الإنسان أجمل وأكثر أماناً، ويمنح هوية لكل حضارة ولكل عصر، بل وأصبح يعكس شخصية الإنسان الذي يقطن داخل أي وحدة معمارية، ناهيك عن إبرازه لقدرة الإنسان في تطويعه لكل مواد الطبيعة لخدمة هذا الفن ورفع جماليته، بل إنه جعل الإنسان في تعاون مع قوى الطبيعة؛ لجعلها تتحد مع المنشآت المعمارية بأذكى الطرق وأفضل التقنيات. ومؤخراً أصبحت بعض المباني تفاعلية تتحرك وفقاً لمزاجها، أو هذا ما أحب تخيُّله، فتتأثر باتجاه الشمس وسرعة الرياح وأي عوامل أخرى يقررها شخص واحد، ألا وهو المعماري.
أنا كمعمارية ناشئة في هذا الفن اعتدت أن أنظر لكل شيء في هذا الكون بصورة مجردة، أن أدقق في خطوطه وأحلل طريقة تركيبه، أن أمعن النظر في ألوانه وأجرده من كينونته. عندما أنظر إلى خلية النحل أنا لا أرى مجرد خلية نحل، لكنني أرى أشكالاً سداسية، منتظمة في خطوط هندسية، وهي عبارة عن توالد لشكل معين، بطريقة معينة، وقِس هذا المثال -يا دام عزك- على كل شيء.
خلافاً لذلك، وحرصاً على تنمية قدراتي الفنية المعمارية فإنني حريصة على دراسة تاريخ الفن المعماري وتحليل المدارس المعمارية، وإعادة النظر في آلاف المشاريع الهندسية المعمارية أيضاً، للتعرف على طريقة تصميمها ودراسة المواد المستخدمة فيها وما إلى ذلك.
وكما باقي الفنون، فإننا في مجال العمارة نمتلك نجوماً لا يقلّون احترافية في عملهم عن موزارت وموسيقاه، ولا إبداعاً عن شكسبير ورواياته، ولا أصالة عن جون لوك وفلسفته.
ولا يمكن أن أتذكر نجوم العمارة ولا أتذكر يوم بكيت بكاءً غزيراً عند سماع خبر وفاة المعمارية العراقية زها حديد، تلك المرأة التي كانت من حديد بالفعل! بعقلها الخارق وتلك التصاميم الفنية الانسيابية، المتأثرة كثيراً بأعمال أوسكار نيماير، وخاصة إحساسه بالمساحة، فضلاً عن موهبته الفذة؛ حيث ألهمت وشجعت أعماله الراحلة زها حديد على الإبداع بأسلوبها الخاص، ذلك الأسلوب التفكيكي الديناميكي الذي ألهم الكثير من رواد هذه المدرسة المعمارية.
أما في مجالات العمارة الذكية وما يسمى بالـ "High-Tech" فإنني من كبار المعجبين بالمعماري البريطاني نورمان فوستر، فطريقة التكتيل التي يستخدمها في المباني الضخمة غير مألوفة وغير نمطية ما جعله من أهم المعماريين الذين دمجوا الفن مع التكنولوجيا. وخولته تصاميمه المنتشرة حول العالم لنيل أهم جائزة معمارية وهي "جائزة البريتزكر" المرموقة، ولديه اليوم أسطول مكون من ألف مهندس يعملون لصالح شركته الهندسية، ضمن أكثر من 20 مكتباً منتشراً حول العالم.
أما محلياً، فهناك الكثير من المعماريين المهمين في الشرق الأوسط والذين وضعوا بصمة مهمة في عمارة المنطقة، وكان لهم أيضاً دور فعال في تطوير المدارس المعمارية، لكنني وبشكل خاص أحب تصاميم المعمارية الكويتية سارة صادق، هذه المعمارية التي تجعل من الحجر مادة تصنع بها أجمل الأشكال، وهي تتعامل معه بطريقة تفكيكية أقرب للخيال، بل إنها تدمج معه خطوط الإنارة بطريقة مدروسة وذكية لتصنع من تلك الفلل لوحات فنية لا تكلّ من النظر إليها فما بالك بالعيش فيها؟!
نجحت سارة في رأيي المتواضع في الدمج ما بين العمارة العربية الإسلامية والعمارة الحديثة، ونجحت أيضاً بدمج جميع أنواع المواد من حجر ورخام وخشب وألمنيوم، كما أنه لا يمكن أن تجد تصميماً من تصاميمها يشبه التصميم الآخر، ولكنك أيضاً ستعرف أن هذا التصميم من تصميم المعمارية سارة صادق حتى لو لم تقرأ اسمها عليه، إنها وبطريقة ما نجحت في صنع روح خاصة بتصاميمها، روح سارة، التي أينما وجدناها وجدنا الجمال والأناقة، البساطة والحداثة.
البيت.. ذكريات تكبر معنا، وتفاصيل حياة تتبلور في كل زاوية فيه؛ لذلك عند أي تصميم معماري أفكر في المستقبل قبل الحاضر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.