دخلت الشابة السعودية ريما مقهى في الرياض، وتفحّصت وجوه روّاده مليّاً، أدركت أن أحداً لا يعرفها، فبدأت بتدخين سجائرها الإلكترونية علناً، ورغم أنها سعيدة بممارسة "حريتها" الجديدة هذه فإنها لا تزال تفعل ذلك بعيداً عن أعين أسرتها.
تقول ريما، وهو اسم مستعار لموظفة في شركة خاصة في وسط الرياض، عمرها 27 عاماً: "تدخيني علناً مرتبط بممارسة حريتي المكتسبة أخيراً في المجتمع. أشعر أنني حرة، وسعيدة أن لدي الخيار"، وقفاً لما ذكرته وكالة الأنباء الفرنسية.
المشهد العام: بات تدخين النساء السعوديات للشيشة والسجائر مشهداً مألوفاً ومسموحاً به في كثير من الأماكن العامة بالمملكة، وهو أمر لم يكن من الممكن تخيله قبل أشهر قليلة.
هذه الظاهرة الجديدة جاءت بعدما أجرت المملكة تغييرات اجتماعيّة مهمّة، وإصلاحات اقتصاديّة يقودها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أبرزها رفع الحظر عن قيادة المرأة للسيّارات، وإعادة فتح دور السينما، والسماح بإقامة حفلات غنائية صاخبة، وحتى غض النظر عن إبقاء المتاجر أبوابَها مفتوحة في أوقات الصلاة.
كما أن البلاد تشهد انفتاحاً اجتماعياً وثقافياً غير مسبوق، يتوسع شهراً بعد شهر بصمت، لعل أبرز سماته وضع حد للحظر على الاختلاط بين الرجال والنساء في مجتمع محافظ إلى حد كبير.
لكن رغم ذلك، لا تزال الرياض تواجه اتهامات من منظمات مدافعة عن حقوق الإنسان بقمع ناشطات قُدن لسنوات حراكاً يدعو لتغيير وضع النساء في المملكة، اللاتي يُقدر عددهن بنصف سكان المجتمع السعودي، البالغ نحو 21 مليوناً، حسب الإحصاءات الرسمية الصادرة عام 2018.
صورة أقرب للواقع: تتخوف ريما التي تدخّن لأربع ساعات على الأقل يومياً أن يفتضح أمرها أمام عائلتها، وتقول الشابة التي كانت ترتدي عباءة سوداء مطرزة بخيوط وكرات ذهبية اللون تتماشى مع غطاء رأسها الرملي: "لن أقول لهم إنها حريتي، لأنهم لن يفهموا أن التدخين حرية للنساء مثل الرجال".
بدأت ريما التدخين سراً قبل عامين على سبيل "التجربة"، لكنها باتت الآن تدخن "السجائر الإلكترونية أيضاً"، بعد أن أهدتها إياها شقيقتها المدخنة.
من جانبها، تشكو نجلاء، وهو اسم مستعار لموظفة سعودية تبلغ 26 عاماً، من أنّ "المجتمع يتقبّل الشاب المدخن، لكن الشابة المدخنة تشكّل فضيحة وعاراً لأهلها"، وتقول: "أدخّن السجائر منذ كنت بالمدرسة مع الكثير من صديقاتي".
في دراسة أجرتها كلية الطب في جامعة الملك عبدالعزيز بالسعودية عام 2015، ونشرتها صحيفة "عرب نيوز" المحلية الصادرة بالإنجليزية، فإن "65% من طالبات المدارس الثانوية السعودية مدخنات بشكل سري".
نقلت الصحيفة عن دراسة مماثلة أنّ السعودية تحلّ في المرتبة الثانية في الخليج، والخامسة في العالم، من حيث عدد المدخنات.
تحدٍّ للمجتمع: تشكو نجلاء، التي جلست وحيدة وسط طاولات يشغلها رجال مدخنون، من نظرات "اشمئزاز" تطالها بين الفينة والأخرى.
لكن الشابة التي كانت ترتدي رداءً أصفر بقلنسوة محل الحجاب، تقول بثقة وهي تشعل سيجارة: "تدخيني العلني تحدٍّ للمجتمع. لا بد أن يدركوا أن النساء بات بوسعهن التدخين في كل مكان، حتى يصبح الأمر مقبولاً".
كذلك تؤكد الفتاة التي وضعت نظارة شمسية كبيرة تخفي ملامحها خشية أن يتعرف عليها أقاربها: "حقي لا يزال ناقصاً، حقي الكامل سآخذه حين تتقبلني أسرتي كمدخنة"، مشيرة إلى أن أسرة إحدى صديقاتها أدخلتها مصحة للعلاج من الإدمان حين اكتشفت أنها تدخن.
يقول نادل لبناني، يعمل في مقهى راقٍ في شمال الرياض: "معظم زبائننا من النساء يطلبن الشيشة، كثيرات يترددن على المكان بانتظام فقط لتدخينها"، ويضيف ضاحكاً: "هذا أمر لم يكن من الممكن تخيله مطلقاً قبل ثلاثة أشهر فقط".
في أحد المقاهي كان هنالك 5 طاولات من أصل 15 في المكان، قد شغلتهن النساء، وقد أمسكت معظمهن بخراطيم الشيشة ذات المبسم الملون، فيما تحوم سُحب الدخان البيضاء فوق عباءاتهن السوداء.
تقول السعودية هبة، البالغة من العمر 36 عاماً، التي كانت تضع غطاء للرأس يكشف نصف شعرها البني: "المملكة كانت منغلقة لسنين طويلة، والهيئة (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) كانت تمنع كلَّ شيء على النساء".
تتابع السيدة في حديثها لوكالة الأنباء الفرنسية أنها تدخن منذ سنين، مضيفةً: "لم أكن أتخيل أنني سأتمكن يوماً من تدخين الشيشة علناً وسط رجال"، وتتابع ضاحكة: "الآن كله مسموح، المرأة تخرج دون حجاب، ودون عباءة، بل وتدخن علناً".
انتقادات حقوقية للمملكة: رغم اتساع هامش الحريات قليلاً للنساء في المملكة، بعد تنفيذ السلطات لـ12 إصلاحاً مرتبطاً باللوائح والأنظمة المتعلقة بالمرأة، فإن المملكة تواجه انتقادات من جهات حقوقية.
فخلال يونيو/حزيران 2018، وقبل ساعات من الإلغاء التاريخي للحظر الذي كان مفروضاً على قيادة النساء للسيارات، أوقفت السلطات نحو 12 ناشطة على الأقل، اعتقلت معظمهن في حملة واسعة. ووجهت السلطات لهن اتهامات بالعمالة لجهات أجنبية.
اتهم العديد منهن المحققين بالتعذيب والتحرش الجنسي بهن أثناء احتجازهن، ومنهن الناشطة لجين الهذلول، حسب منظمات حقوقية دولية. وهو ما تنفيه السلطات السعودية تماماً.
يرى وليد الهذلول، شقيق لجين، أنه "لا شك أنّ على المستوى الشخصي هنالك حرية، لكن الهدف من السماح بالقيادة وغيرها من الإصلاحات المرتبطة بالمرأة هو حملة علاقات عامة لتحسين صورة المملكة في ملف حقوق الإنسان".
يضيف الهذلول أن "اعتقال الناشطات وشيطنتهن هو أكبر دليل على ذلك حتى لا يُنسب فضل (الإصلاحات) للناشطات".