أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2019، كان رتل عسكري من الآليات الثقيلة والمتوسطة يسير ببطء باتجاه ميناء الزيت في عدن، العاصمة المؤقتة لليمن، قبل أن تُشحن تلك الآليات على ظهر سفينة إماراتية، عائدة إلى بلدها، كان هذا أول إعلان عن انسحاب الإمارات من اليمن قيل إنه سيكون تدريجياً.
حينها أعلنت أبو ظبي السحب التدريجي لقواتها، وأوضحت قيادة الجيش الإماراتي، أن القوة المشتركة في عدن عادت إلى البلاد، بعد "إنجازها مهامها العسكرية المتمثلة بتحرير عدن وتأمينها وتسليمها للقوات السعودية واليمنية".
واليوم، يقول مصدر عسكري في رئاسة الأركان اليمنية لـ "عربي بوست"، إن الإمارات سحبت كل قواتها القتالية، ولم يبق إلا قوات إشرافية في مواقع محدودة، مهمتها قيادة وترتيب وضع القوات المحلية الموالية لأبو ظبي.
ولكن نفوذها تعزز رغم هذا الانسحاب.
يضيف المصدر لـ "عربي بوست" الأمر لم يختلف كثيراً، النفوذ الإماراتي لا يزال مستمراً ونافذاً، عبر القوات المحلية الموالية لها، خصوصاً ما حدث في الآونة الأخيرة شرقي مدينة عدن".
فالأحد الماضي، منعت قوات الحزام الأمني التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً، كتيبة الدفاع الساحلي التابعة للحكومة الشرعية من دخول عدن، وفق ما نص عليه اتفاق الرياض الموقع بين الانتقالي والحكومة الذي رعته السعودية مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
إعلان جديد
وللمرة الثانية تعلن الإمارات انسحاب قواتها من اليمن، بعد خمسة أعوام كانت فيها القوة الثانية ضمن تحالف -تقوده السعودية- شن حرباً في البلد الأفقر بالجزيرة العربية، بهدف إعادة الرئيس عبدربه منصور هادي إلى سدة الرئاسة.
لكن هادي لا يزال نازحاً في الرياض منذ العام 2015، والحوثيون الذين انقلبوا عليه حققوا مكاسب عسكرية جديدة مؤخراً، ولا تزال العاصمة صنعاء، ومعظم محافظات البلاد الرئيسية تحت سيطرتهم.
ورغم ذلك، قال نائب رئيس أركان القوات الإماراتية، القائد المشترك للعمليات المشتركة في اليمن، الفريق عيسى المرزوعي، إن 15 ألف جندي من قوات بلاده البرية وحرس الرئاسة وثلاثة آلاف من البحرية، حققوا إنجازات في اليمن.
غير أن المصدر العسكري اليمني الذي تحدث لعربي بوست، قال إن القوات الإماراتية تتحرك دون تنسيق مع الحكومة اليمنية، "حتى إننا لم نكن نعرف حجم القوات أو الدور القتالي الذي تلعبه في اليمن".
وأضاف "كان الوضع العملياتي للقوات الإماراتية مستقلاً تماماً عن الحكومة المعترف بها دولياً وعربياً".
وظهر ذلك في حديث المزروعي، الذي قال إن قواته قاتلت في اليمن 3 أعداء، هم الحوثيون والقاعدة والإخوان المسلمين، أي حزب الإصلاح، والأخير لم يكن عدواً للحكومة اليمنية بل إن قادته مستشارون للرئيس هادي، كما التقوا مرتين المسؤولين الإماراتيين.
وعقب الانسحاب الإماراتي من اليمن، بدأت أبوظبي تتحول من استراتيجية الهيمنة المباشرة إلى استراتيجية الهيمنة غير المباشرة، والتي ستنفذها القوات التي أنشأتها ومولتها على مدى الأعوام الماضية.
مسارات الانسحاب الإماراتي والبدائل التي خلقتها بأموالها
ووفق مصادر عسكرية فإن أول عملية انسحاب كانت للقوات الإماراتية من ميناء مدينة المخا، الواقعة على ساحل البحر الأحمر غربي اليمن، بعد أن أنشأت قوات موالية لها يقودها طارق صالح، نجل شقيق الرئيس السابق علي عبدالله صالح.
وأضافت المصادر إن الميناء سُلم إلى القوات السعودية، كما انسحب الإماراتيون من جزيرة زقر، وسلموها لقوات طارق صالح.
أما الانسحاب الأبرز فكان من مدينة عدن، قاعدة الإماراتيين العسكرية، إذ غادرت القوات مقرها، وسمحت للمواطنين والجنود بنهبه، إبان المعارك التي اندلعت في المدينة منتصف أغسطس/آب الماضي.
كما سحبت الإمارات قواتها القتالية من حضرموت وشبوة بشكل تدريجي، كما حدث في مدينة مأرب، وسط اليمن، إذ سحبت الإمارات كل قواتها وآلياتها العسكرية.
الهيمنة غير المباشرة تعتمد على المرتزقة والمقاتلين المحليين
على الأرض، كانت القوات الإماراتية القتالية قد انسحبت فعلياً، وانحصر دور المتبقي منها في الإشراف على 200 ألف جندي يمني يدينون بالولاء لها، بعد أن أنشأت لهم كيانات عسكرية، سيطرت بها على مدينة عدن، والمحافظات الجنوبية.
وعبر قوات الحزام الأمني وقوات النخب والقوات التي يقودها طارق صالح نجل علي عبدالله صالح، تفرض الإمارات هيمنتها على أجزاء واسعة من المناطق اليمنية التي لا يسيطر عليها الحوثيون.
وبحسب معلومات حصل عليها عربي بوست، فإن القوات الإماراتية تتواجد بنسبة محدودة في مطار الريان، بمدينة المكلا، مركز محافظة حضرموت، جنوب شرقي البلاد، بعد أن حوله الإماراتيون إلى قاعدة عسكرية وسجن، يُحظر فيه الرحلات الجوية.
كما توجد قوات إماراتية محدودة بالإضافة إلى مرتزقة من جنسيات عدة، في موقع عسكري على قمة جبل يطل على مدينة المكلا من الواجهة البحرية، ويقيم فيه القائد الإماراتي أبو سيف، بالإضافة إلى موقع عسكري في ميناء الضبة على ساحل البحر العربي.
أما في محافظة شبوة، جنوب شرق، تعسكر القوات الإماراتية في منشأة بلحاف الغازية، ومعسكر العلم، غير أن الموقعين جرى عبرهما استيعاب قوات النخبة الشبوانية المدعومة من الإمارات، بعد انسحابها من المحافظة على وقع المعارك ضد القوات الموالية للحكومة في أغسطس/آب الماضي.
غير أن التواجد الأبرز لا يزال في مدينة عدن، العاصمة المؤقتة، فالإمارات ترتكن إلى قوات المرتزقة المشكلة من عدة جنسيات، أما الضباط الإماراتيون فيقتصر دورهم في الإشراف من مقر التحالف المحصن في مديرية البرقة غربي عدن.
وتتواجد قوات المرتزقة في المعسكرات التابعة للمجلس الانتقالي الموالي للإمارات، مثل معسكر أحزمة الشعب والدعم السريع واللواء الخامس واللواء الثالث صاعقة.
وفي الساحل الغربي يشرف ضابط إماراتي يُدعى أبو عمر على القوات المشتركة، التي تتألف من قوات طارق صالح وقوات العمالقة (تشكيلات سلفية) وقوات المقاومة التهامية، التي تشارف على مدينة الحديدة.
لا عسكر إماراتيين في سقطرى، ولكن المال ومرتزقة من المغرب ومصر يحلون محلهم
منذ بداية العمليات العسكرية في اليمن، وضعت أبو ظبي عينها على جزيرة سقطرى، الواقعة في المحيط الهندي، وبدأت بالتغول فيها، حتى اصطدمت بالحكومة اليمنية والأهالي، حين نفذت عمليات إنزال لقوات وآليات عسكرية فيها.
وأجبرت الحكومة اليمنية بعد التهديد بشكوى الإمارات لمجلس الأمن، على سحب أبو ظبي قواتها، لكن مصدراً عسكرياً يقول إن الإماراتيين لا يزالون فاعلين بصورة كبيرة في الجزيرة، بعد أن عمدوا إلى العمل الأمني المخابراتي.
وأوضح المصدر لعربي بوست، إن قيادات عسكرية وأمنية من المخابرات الإماراتية، تعمل على تجنيد أكثر من ألفي عنصر من المجندين الموالين لها، كما تعمد إلى شراء الولاءات من القيادات العسكرية، مستغلة اضطراب الأوضاع في الجزيرة، وعدم انتظام صرف الرواتب.
وأضاف "الإماراتيون يدفعون أموالاً كبيرة، وقبل أيام انضمت لهم كتيبة عسكرية، بعد أن انضمت لهم القوات الخاصة".
ويشير إلى أن الإماراتيين جلبوا معهم مرتزقة من المغرب ومصر وبنغلاديش لحراسة مقارهم المخابراتية التي تظهر شكلاً على أنها مؤسسات استثمارية وخيرية، مثل مقر الهلال الأحمر ومؤسسة خليفة بن زايد للأعمال الإنسانية، ومؤسسة دكسم باور للكهرباء، ومصنع برايم للأسماك، ومجموعة من المتاجر (سوبر ماركت).
وبحسب المصدر فإن شخصيات أجنبية أدخلتهم الإمارات إلى الجزيرة، كعمالة.
وقال المصدر إن كثيراً من القيادات العسكرية بدأ موقفها يتذبذب بين المحافظ والسلطات الحكومية، ووفق معلومات فإن تلك القيادات لها اتصالات مع الإماراتيين.
انسحاب زائف قد يكون هدفه ضرب هذه المدينة اليمنية
الصحفي والمحلل السياسي فهد سلطان يرى أن انسحاب الإمارات من اليمن غير وارد، خصوصاً إن الإمارات لا تزال فاعلة عبر "200 ألف جندي جميعهم رديف للقوات الإماراتية التي ما زالت تعبث في الداخل اليمني وتمارس دور المحتل"، حسب تعبيره.
ويشير إلى أن إعلان الانسحاب الجديد يُنبئ عن وضع وتوجه جديدين تريده أبو ظبي في اليمن، "فبعد كل انسحاب تحصل حادثة أو تكون تغطية لمخطط يجري الترتيب له، وفي هذه المرة من المحتمل أنها ستعمل على استهداف مدينة تعز التي تعد معقلاً لحزب الإصلاح " والتي قاومت حصار الحوثيين.
ويقول سلطان "في مرات سابقة، تحدثت الإمارات عن انسحاب وإعادة تموضع في نفس الوقت، وعلى ما يبدو فإن ذلك تبديل في القوات واستقبال دفعات وإرسال أخرى".
من جهته يرى الباحث في مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، أسامة الروحاني، عدة أسباب لرحيل الإمارات، من بينها أنها حققت ما كانت تسعى إليه، وهو وجود حلفاء محليين على الشريط الساحلي اليمني، ولو على حساب إضعاف صف الشرعية.
وأضاف: "الإمارات ما زالت موجودة الآن عبر ممثليها وحلفائها في الداخل، وهذا لا يعني أنها خرجت من اليمن، ولكن أخرجت قواتها فقط. وانتقلت إلى المرحلة الثانية من خطتها كما هو الحال في ليبيا، وهو الانخراط عبر الوكلاء المحليين على عكس التدخل المباشر".