على الرغم من أن اندلاع مواجهة مباشرة بين إسرائيل وتركيا أمر مستبعد، فإن العلاقات بين الدولتين تشهد توتراً ملحوظاً، خصوصاً بسبب اكتشافات الغاز في منطقة شرق البحر المتوسط، لكن هذا ليس المحرك الوحيد لذلك التوتر، فما القصة؟
موقع المونيتور الأمريكي نشر تقريراً، بعنوان: "إسرائيل واليونان وقبرص تواجه تركيا في البحر المتوسط"، ألقى فيه الضوء على تفاصيل تلك المواجهة وأبعادها.
ماذا حدث؟
نشر الجيش الإسرائيلي تقييمه الاستخباراتي السنوي في 15 يناير/كانون الثاني الجاري، ويُقال إنَّ هذه هي المرة الأولى التي يذكر فيها التقييم أنَّ ما زُعم أنها سياسات إقليمية عدوانية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان تُشكِّل خطراً رئيسياً تجب مراقبته، لكنَّ التقييم لا يتوقع دخول إسرائيل في مواجهةٍ مباشرة مع تركيا في العام الجاري (2020). وإذا ألقينا نظرةً فاحصة إلى العلاقات الباردة الحالية بين إسرائيل وتركيا، فسنجد تصعيداً محتملاً بينهما لا يتجلَّى فقط في المجال السياسي الذي يشمل القضية الفلسطينية أو محاربة الإرهاب، لكنَّه يظهر كذلك في قطاع الطاقة.
ففي 2 يناير/كانون الثاني الجاري، وقَّعت إسرائيل واليونان وقبرص اتفاقية لبناء خط أنابيب تحت البحر لنقل الغاز الطبيعي من حقول الغاز في شرق البحر المتوسط إلى أوروبا. وسينقل مشروع خط الأنابيب، الذي يحمل اسم "إيست ميد"، الغاز الطبيعي من حقول الغاز البحرية الإسرائيلية والقبرصية إلى إيطاليا، ومن ثَمَّ إلى بقية أوروبا، وهو ما يوفر للقارة الأوروبية إمدادات ثابتة من الغاز غير الروسي. ولكن إلى جانب هذا النجاح الدبلوماسي، أجَّج المشروع حدة الأزمة بين الدول الثلاث التي وقَّعت الاتفاق وتركيا في قطاع الغاز الطبيعي وبوجهٍ عام.
ويُمثِّل توقيع اتفاق خط الأنابيب أحدث التطورات في عشر سنواتٍ من التعاون الثلاثي المتزايد بوتيرةٍ ثابتة بين إسرائيل وقبرص واليونان، بعدما اكتشفت إسرائيل كمياتٍ من الغاز تحت مياهها الإقليمية. وقد جرى تسريع وتيرة التعاون في مجال الطاقة منذ نحو عام، بإنشاء منتدى شرق المتوسط للغاز. وأصبح هذا المنتدى الفريد، الذي يهدف إلى تعزيز التعاون الإقليمي في مجال الطاقة، يضم الآن هذه الدول الثلاث إلى جانب مصر والأردن والسلطة الفلسطينية وإيطاليا. وكذلك طلبت فرنسا الانضمام، في حين تريد الولايات المتحدة الحصول على مركز "مُراقبٍ دائم".
ومن جانبه قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في حفل التوقيع: "هذا يوم تاريخي لإسرائيل، لأنَّ إسرائيل تتحول بسرعة إلى قوةٍ عظمى في مجال الطاقة، ودولةٍ مُصدِّرة للطاقة… وهو يوم تاريخي كذلك، لأنَّ التعاون بين اليونان وقبرص وإسرائيل يزداد قوة. فهذا تحالفٌ اقتصادي وسياسي حقيقي في شرق البحر المتوسط، ويعزز أمن المنطقة واستقرارها".
تضخيم نتنياهو للغاز وتأثيره
وبغضّ النظر عن حماسة نتنياهو، قد يكون اتفاق الغاز الحالي في الواقع أقل إيجابيةً مما يبدو. فصلاحيته الاقتصادية غير واضحة في ظل وجود وفرةٍ عالمية بكميات الغاز المعروضة بالفعل وانخفاض أسعار الغاز. وبالإضافة إلى ذلك، فهناك تحديات تكنولوجية وأمنية هائلة أمام الخط، الذي سيكون أطول وأعمق خط أنابيب تحت الماء في العالم. لذا يعتقد بعض الخبراء أنَّ تسييل الغاز في محطات تسييل الغاز الحالية والمخططة إقامتها في مصر، قد يكون بديلاً أفضل.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ إسرائيل بدأت بالفعل التمتُّع بالثمار الدبلوماسية لمساعي إنشاء خط الأنابيب حتى قبل أن يبدأ الحفر. إذ تمتد العلاقات بين إسرائيل واليونان وقبرص كذلك لتشمل إطاراً سياسياً، في ظل عقد مؤتمرات قمة وزارية منتظمة، وزيادة التعاون الأمني والعسكري، لا سيما المناورات التدريبية المشتركة. ويمكن القول إنَّ الدافع الرئيسي غير المباشر وراء هذا التوافق المزدهر هو إصرار تركيا المتزايد وتمسُّكها بموقفها في القضايا الإقليمية، بالإضافة إلى الحالة السيئة للعلاقات الإسرائيلية-التركية منذ وصول أردوغان إلى السلطة، لا سيما بعد حادثة سفينة مرمرة التي وقعت في عام 2010. فمن وجهة نظر اليونان وقبرص، يسهم التعاون الواضح مع إسرائيل في ردع أنقرة.
خط الغاز الروسي-التركي
وبطبيعة الحال، كان رد فعل تركيا على اتفاق خط الأنابيب سلبياً. إذ ترى أنَّ منتدى شرق المتوسط للغاز يُعَد أداةً إضافية لكبحها جيوسياسياً في شرق البحر المتوسط، واستبعادها من كعكة كميات الغاز الهائلة المُكتشفة مؤخراً في البحر المتوسط. والأهم من ذلك أنَّ المشروع الجديد يهدد استراتيجية تركيا الرامية إلى جعلها مركزاً رئيسياً للطاقة بين الشرق والغرب. ففي 8 يناير/كانون الثاني الجاري، افتتح أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين خط أنابيب الغاز "ترك ستريم"، الذي يمتد من روسيا إلى بلغاريا. وكذلك يبدو أنَّ هناك رغبةً حقيقية من جانب قيادة تركيا في تأكيد الهيمنة بالمناطق المجاورة لها، واستعادة مكانتها في العهد العثماني حين كانت قوةً بَحرية في الساحل المتوسطي. وتتجلَّى هذه المساعي في أجندة أنقرة لتوسيع القوة البحرية التركية، التي من المتوقع أن تشهد إضافة أكثر من 20 سفينة في غضون السنوات الثلاث المقبلة.
وبعيداً عن الدوافع العسكرية والدبلوماسية، فسياسات الطاقة والسياسات البحرية في تركيا تخدم أغراضاً محلية أيضاً. إذ إنَّ المواجهة مع الدول غير الإسلامية، لا سيما قبرص، تحظى بشعبية داخل قاعدة أردوغان في حزب العدالة والتنمية، وكذلك بين شركائه القوميين غير الإسلاميين في التحالف الذي يقوده.
ولذلك، تتصدَّى أنقرة للمساعي الرامية إلى "تطويقها" بالهندسة الاستراتيجية لشرق المتوسط، التي تحاول إسرائيل ومصر صياغتها بشكلٍ مشترك. وقد أرسلت بالفعل بعض سفن الحفر، مع قوات حراسةٍ بَحرية، للتنقيب عن الغاز في مياهٍ تدَّعي قبرص وجمهورية شمال قبرص التركية ملكيتها. وكذلك هدَّدت القوات البحرية التركية سُفن مسحٍ قبرصية في المناطق المتنازع عليها، وفي أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أجبرت سفينةَ استطلاعٍ إسرائيلية على مغادرة المنطقة.
الاتفاق مع الحكومة الليبية
وتأجَّجت التوترات أكثر حين أعلنت أنقرة، في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، أنَّها توصَّلت إلى اتفاقٍ مع الحكومة الليبية المعترف بها دولياً -بقيادة رئيس الوزراء فايز السراج- يقضي بترسيم الحدود البحرية وتقسيم مناطق البحر المتوسط إلى نصفين، متجاهلاً وجود الجزر اليونانية. ومن الواضح أنَّ هدف تركيا من هذا الاتفاق مع ليبيا كان "التقدُّم بخطوةٍ" على منتدى شرق المتوسط للغاز وإعاقة المسار المرتقب لخط الأنابيب الجديد الذي يمتد نحو إيطاليا؛ ومن ثَمَّ، إحباط الآمال القبرصية، وتخويف المستثمرين المحتملين، وإجبار الأطراف المشاركة في المشروع على إشراك أنقرة.
ومن الواضح أن توقيت توقيع مشروع "إيست ميد" كان يهدف إلى تحدِّي مناورة تركيا، غير أنَّ اتفاقية أنقرة الحدودية البحرية مع ليبيا دُعِمت بالنيّات التركية المُعلنة لمساعدة السراج بمجموعةٍ من القوات التركية. وتشير الجهود المشتركة الأخيرة لوقف إطلاق النار في ليبيا من جانب أردوغان وبوتين، الذي يدعم الجنرال خليفة حفتر والحكومة المُنافسة لحكومة السراج، إلى نجاح المناورة التركية.
فهل يمكن أن يخرج التنافس الإسرائيلي – التركي عن السيطرة؟
ترى إسرائيل أنَّ تركيا، تحت حكم أردوغان، منافسةٌ لها، وإن كانت مُنافسةً أقل حدةً من أعداء آخرين أعنف وأكثر إلحاحاً. وقد ظهرت التوترات الحالية وسط خطط إسرائيل للبدء في ضخ الغاز من حقل ليفياثان البحري لتصديره إلى الأردن ومصر، وهو ما بدأته بالفعل في 15 يناير/كانون الثاني.
ووصف نتنياهو إنتاج الغاز، وتحديداً الغاز المُخصَّص للتصدير، بأنه حيوي لأمن إسرائيل الاقتصادي على المدى الطويل. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ تخطيط إسرائيل للتعاون بمجال الغاز في شرق البحر المتوسط، والتحالف الاستراتيجي الثلاثي بينها وبين قبرص واليونان يُمثِّلان عنصرين رئيسين لرؤية نتنياهو الطويلة المدى، الساعية إلى جعل إسرائيل قوةً متجاوزة لحدود المنطقة، والانتفاع منها كذلك على المدى القصير بجعلها سرديةً في موسم الانتخابات عن البراعة والنجاح الاستراتيجيَّين. وفي أثناء محاولة تركيا عرقلة هذا الإنجاز، فقد تتحول إلى تهديد أشد حدة.
وذكرت تقارير أنَّ أنقرة عرضت مؤخراً مناقشة قضية الغاز مع إسرائيل. ونظراً إلى عدم رغبة إسرائيل في دخول مواجهةٍ عدائية مفتوحة مع تركيا، قلَّلت علانيةً من شأن الجوانب المعادية لتركيا في التحالف الإقليمي الذي تُشكِّله. فتزايُد التوترات قد يؤدي إلى تهديد تجارة إسرائيل البحرية. وبالإضافة إلى ذلك، فاندلاع صدامٍ بين إسرائيل ودولة عضوة في حلف شمال الأطلسي (الناتو) سيكون موقفاً صعباً للغاية. ومن العوامل الأخرى التي تدفع إسرائيل إلى اتخاذ موقف متَّزن وغير مثير للمواجهة، إدراك إسرائيل أنَّ اليونان وقبرص لن تستطيعا -أو لن ترغبا في- اتخاذ إجراءاتٍ مضادة ذات تأثيرٍ عسكري من جانبهما.
ومع ذلك، فليس من المستبعد أن تُنشَر قوات البحرية الإسرائيلية والتركية قريباً لاستعراض القوة القومية وحماية الأصول الحقيقية والمحتملة. وكما أشير في فقرةٍ سابقة من هذه المقالة، فقد وقع بالفعل حادثٌ واحد (غير عنيف) بين سفن تركية وإسرائيلية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وكذلك أرسلت تركيا سُفُناً حربية لزيارة شمال إفريقيا في أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي وأوائل يناير/كانون الثاني الجاري، وذكرت بعض التقارير أنَّها نشرت طائراتٍ مسلحة من دون طيار في قبرص التركية.
خُلاصة القول: إنَّ أهمية قضايا الغاز والملاحة لكلٍّ من إسرائيل وتركيا، والافتقار إلى الآليات المناسبة لإدارة الأزمات بين البلدين بسبب العلاقات الدبلوماسية والعسكرية المضطربة، وحاجة قائدي البلدين إلى الظهور بمظهرٍ قوي وعدم التراجع عن موقفيهما- كلها عوامل تزيد احتمالات اندلاع احتكاكٍ بينهما في البحر يُمكن أن يتصاعد. أي إنَّ احتمالية اندلاع العنف بين إسرائيل وتركيا زادت، وصحيحٌ أنَّها لم تصل إلى درجةٍ عالية حتى الآن، لكنَّها لم تعد تافهة.