أنت قوي.. أنت إنسان جميل أوي.. عارف؟ رغم كل الحاجات اللي بتعدّي بيها.. أنت لسه مكمّل وبتعافر وبتحارب.. وعسل.. لا.. وقمر.. بتضحك؟ أيوه بقول لك أنت.. بتضحك صح؟ جميل إني ضحَّكتك، متخبِّيش ضحكتك القمر دي تاني بقى.. أنت القارئ بتاعي الجميل الحليوة.. ههه
ماذا لو أكملتُ المقال على هذا النحو؟ هل يصلح أن يكون "مقالاً"؟ ثم دعك من المقال، هل يصلح أن يكون كتابٌ بهذه الطريقة؟ أو بمفردات قد تكون في هذا المستوى من المفردات، أو أدنى منها؟ هل سمعت عن "هيبة" الكتابة، ورهبة القلم، ومجد الكلمة، وثقل الحرف؟
بالتأكيد، سيدي القارئ، لكل إنسانٍ حقه في أن يكتب، وأن يذيع أسراره تلك لدفتره، وأن يذيع دفتره للناس في كتاب إن أراد، لكن بمستوى لا ينزل بذوق القراء إلى قاع القراءة، فتنتشر البضاعة الرخيصة في متاجر دور النشر، ويضيع جمال الفاكهة بالهرمونات، ويستشعر الناس غرابةً في الطعم واللون والرائحة أولاً، ثم مع الوقت يتعودون، وإذا سُئلوا عما يأكلونه، فسيقولون بمنتهى البساطة: فاكهة.
يطل علينا معرض القاهرة للكِتاب، أو للكُتّاب، وهو زاخمٌ بكتب أكبر من عدد الزوار، وبكُتّاب أكثر من القراء، ولا بأس في الكتابة بحد ذاتها، لكن المشكلة كلها في جودة الكِتاب، ولا أحد يستطيع وضع معايير تقول إن هذا الكتاب جيد أو سيئ، لكنّ هناك حداً أدنى للتذوق، وللألفاظ، وللأسلوب، وللفكرة، وللمعنى، وللرسالة.
أتذكر في صغري، حين كان أبي يأتي في أيام معينة كل عام، بكومةٍ كبيرة من الكتب، وعلى ظهرها جميعاً صورة "سوزان مبارك" وتحتها شعار المعرض: "مهرجان القراءة للجميع"، وأتذكر الكتب وما بها، وأي كُتاب كانوا هؤلاء، وكيف كان الأدب أدباً، يجبرك على أن تتأدب عنده، وتقف أمامه وقفة إجلال وإكبار، وتخشى أن تمسك القلم فيفلت كلماتٍ غير موزونة، وتخشى أن يخط بالورقة حروفاً لا ترقى للمهمة المقدسة، ثم أنظر إلى معارض هذه الأيام، وأتخيل على ظهر الغلاف صورةً لـ "سوزان" تضحك ساخرةً منا، وتحتها شعار: "مهرجان الكتابة للجميع"!
والمشكلة -يا سيدي القارئ- على ما يبدو، مركَّبة، لا يتحملها أي من "الكاتب" أو القارئ أو الدار، على حدة، بل هي جريمة باشتراك الجميع، فالذي يكتب محتوى فارغاً لو لم يجد من "يطبّل" له بلا داعٍ، لبحث عن نفسه في مجالٍ آخر، ربما سيكون أفضل بكثير، فالموسيقيُّ ربما لا يستطيع رسم شجرة، والرسام لا يستطيع عزف مقطوعة، وكذلك ربما هذا الذي لا يملك كتابة كلمة، يمكنه أن يفعل شيئاً عظيماً في مكانٍ آخر.
ودور النشر، يا سيدي، التي تستحوذ على حصص الاستثمار في عدد المتابعين عند هذا المشهور، وهم عندها مجرد أرقام بلا قيمة سوى الأرقام التي سيدفعونها مقابل هذا "الكاتب" لا الكِتاب، لأنهم يتاجرون في الشخص نفسه، لا الذي يقدمه، لأن الذي يقدمه لا يقدم ولا يؤخر، مجرد هواء، ولا أحد يستطيع المخاطرة والمتاجرة في الهواء والربح منه، عدا نجيب ساويرس طبعاً.
وأسرح بخيالي بعيداً، وأتخيل معرضاً للكِتاب، يشارك فيه طه حسين والرافعي والعقاد ونجيب محفوظ وخيري شلبي ويوسف إدريس وأنيس منصور ويحيى حقي وتوفيق الحكيم ومحمد عبدالحليم عبدالله وإحسان عبدالقدوس وغيرهم، وغادة السمان ومي زيادة ورضوى عاشور وغيرهنّ، وعلى سبيل ذِكر نون النسوة، فدور النشر، يا سيدي، تكفيها حلاوة الكاتبة لا حلاوة الكتابة، وحينها ستذهب إليها، وتقول لها: أنتِ مشروع كاتبة عظيمة، وتلك السيدة لا تجيد إلا ماسك الزبادي بالخيار، لكن الدار تقول لها: نحن نعرف، ربما أنت لا تعرفين نفسك جيداً بقدر ما نعرفك نحن، فتفرح المرأة التي أصبح اسمها من الآن وصاعداً "كاتبة"، وتنشر صورتها مرفقة بـ "توقيع عقد كتابي الجديد مع دار النشر المجنونة"، مع دباديب وقطط وقلوب، بلا حصر ولا عدد، وتنهال التعليقات بسيلٍ كبير من "بيجاااد"، وأحياناً من "بتهزززززري!".
والكُتاب الرجال غير مستثنين من "الحلاوة"، فالشعر "المسبسب"، مع ابتسامة، مع قصة نجاح فاشلة أو قصة فشل ناجحة، كفيلون بأن يصنعوا منك كاتباً، جمهوره عريض جداً، يحب المسكِّنات ويدمن المخدرات ويتغذى على أنصاف القصص وأنصاف الحكايات، ويسعى هو نفسه مع الوقت إلى أن يكون ذلك الشخص الممتلئ باللاشيء.
وبينما أكتب ذلك، لا أنزّه نفسي عن أي خطأ أو نقد أو تقييم أو مراجعة، فللقارئ الجيد الحكم على الجودة، وهو عاقل بالقدر الكافي ليفرق بين النوعين: النوع الذي يتجاوز الحد الأدنى، والنوع الذي دونه.
ورسالتي إلى السادة القراء، أن تنتقوا الكتب على أساسٍ تعلمونه جيداً، إن كنتم تحبون الأدب ففيه كثير مما صنع تاريخ أمم وغيّر مصاير شعوب أو أضاء لهم القناديل وفتح لهم في الخيال باباً لن يجدوه في واقعهم، وأنا لستُ بالقارئ الجيد حتى أقدم ترشيحات، فهناك الكثير جداً بيني وبين الحد الأدنى للقراءة، لكن التمسوا ترشيحات الذين تثقون بآرائهم وجودة أذواقهم وعقولهم.
واجتنبوا "التريند"، والكتابات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولن أقول: لا تضيِّعوا ادخاركم على كتب بلا قيمة حقيقية، بل أقول: لا تقبلوا بها وإن كانت توزَّع مجاناً، فوقتك أثمن من جيبك، وعقلك أكثر قيمة من مالك، وذوقك أثمن من أن يُخسَف به سابع أرضٍ من خلال أشباه الكُتاب.
وموقفي كقارئ، من الكتابة بالعامية ثابت، عدا شعر العامية، لأنه تراث أصيل في كل قوم، فأرسلت إلى عدد ممن يكتب بالعامية، بأن يجرِّبوا الفصحى، فوجدوا لهم فيها متسعاً جميلاً، لكنهم كانوا يستسهلون، رجوتُ منهم ألا يحرمونا من كتاباتهم لكن بالفصحى، وألا يتعللوا بالقارئ الذي لا يحب الكلام الثقيل، لأن القارئ نفسه سيقرأ ما يجده أمامه، ويتعوده مع الوقت، ويتذوق اللغة ومفرداتها، والسرد وجماله، والأسلوب وما له من هيبة، فيرتفع ذوقه بارتفاع ذوق كاتبه، بدلاً من أن يهبط ذوق الكاتب بحجة هبوط ذوق القارئ.
وأخيراً، لا تجعلوا من معرض القاهرة للكِتاب قهراً للكُتاب، ولا تصدِّقوا شعار "الكتابة للجميع" بدلاً من "القراءة للجميع"، ولا تصنعوا من المشاهير أدباء، وإنما ابحثوا عن الأدباء وأعطوهم حقهم، واصنعوا منهم مشاهير، وجامِلوا في كل شيء كيفما أردتم، لكن إياكم، أن تجاملوا في الكلمة.
ورسالة إلى السادة "الكُتاب"، إلى هؤلاء وهؤلاء والمذبذبين بينهم.. الأدباء الذين نسمع عنهم اليوم لم يكونوا وحدهم في عصورهم، وإنما كانت أيامهم مثل أيامنا ملأى بالزَّبَد وبما يمكث في البحر، وكانت زاخرةً بالأدب وبـ "قلة الأدب"، ثم هاهي النتيجة، أننا نقرأ لعدد ضئيل منهم، وأين ذهب الباقون؟ اندثروا، لأن عمر الرخيص قصير، و"الغالي تمنُه فيه".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.