كنت في السجن مع مصطفى قاسم.. وهذا ما لا يعلمه أحد عما حدث له

عدد القراءات
8,710
عربي بوست
تم النشر: 2020/01/22 الساعة 16:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/01/23 الساعة 09:28 بتوقيت غرينتش
مصطفى قاسم

تلقيت هذا الأسبوع مكالمةً كنت أخاف منها لسنين، وهي مكالمة إخباري بوفاة مصطفى قاسم. أمضى مصطفى، وهو مواطن أمريكي، 77 شهراً في سجون مصر سيئة السمعة، وتعرَّض فيها لظروفٍ أدت إلى تفاقم حالته الصحية الهشة في الأساس. وقد كان صديقاً لي، وزميل زنزانتي في السجن فيما كنت معتقلاً بغير وجه حق أنا أيضاً في مصر، وأول عميل لمنظمتي بعد إطلاق سراحي.

عندما قابلت مصطفى لأول مرة في سجن طرة، لم يسعني سوى التفكير في سبب إيداع شخص مثله مثل هذا المكان. فقد فاجأني مصطفى فوراً بروحه اللطيفة والرقيقة، وجسمه الضئيل وابتسامته الواسعة. وقد قال لي مازحاً: "أنا أسن من أن أسبب المشاكل، بخلافك"، وقال إنه معتقل لأنه كان شاهداً على تفريق اعتصام، وإن جريمته الوحيدة كانت أنه كان يحمل جواز سفره الأمريكي معه حين أُلقِيَ القبض عليه ووقوعه عرضة لرغبات نظام عبدالفتَّاح السيسي.

خلال فترة وجودنا معاً، قارنا بين ملاحظاتنا حول الظروف في العديد من السجون وأقسام الشرطة، ورصدنا الاختلافات بين تجاربنا مع أساليب التعذيب وحفلات التنكيل التي استخدمها رجال الشرطة والحُرَّاس. وأخبرني بقصصٍ عن عائلته وعن حبه لمدينة نيويورك وشغفه بريادة الأعمال.

ليس سراً أن مصر تحت حكم السيسي أصبحت ثقباً أسود لحقوق الإنسان، والحكم الديمقراطي، وسيادة القانون. فمنذ بدأ السيسي حملته القمعية القاسية غير المسبوقة على المعارضين في 2013، فقد آلاف المصريين حياتهم في عمليات قتل خارج نطاق القضاء، وسُجِنَ عشرات الآلاف ظلماً وسُدِّدَت إليهم اتهاماتٌ سياسية مُلفَّقة، بمن في ذلك النشطاء والصحفيون والمواطنون الأمريكيون. واليوم، يقبع ما يقدَّر بنحو 60 ألف معتقل سياسي في السجون في ظروف وحشية وغير إنسانية، وثمة أنباء عن وفاة 677 شخصاً منهم بسبب الإهمال الطبي، ومن بينهم رئيس البلاد المعزول

لم تختلف قصة مصطفى عنهم كثيراً. فقد حُوكم وسط 700 متهم في قضية واحدة، ووجهت إليه تهم الاحتجاج ضد الحكومة ضمن محاكمة جماعية صورية. وكانت محاكمته وفقاً لقانون تظاهر قديم وأخرق، استخدمه السيسي لخنق المجتمع المدني والمعارضة. وفي سبتمبر/أيلول 2018، أصدرت المحاكم المسيَّسة للغاية أحكاماً قاسية على مئات المهمين، وحُكم على مصطفى بالسجن لمدة 15 عاماً في سجن شديد الحراسة. وقد احتج على هذا الحكم من خلال إضراب مفتوح عن الطعام. 

ستعصف مأساة وفاة مصطفى على نطاق واسع وعميق بحياة أصدقائه وعائلته. فمن كانوا محظوظين منا لمعرفته وحبه في حياته، لن ينسوا أبداً قوته في مثابرته رغم حاله الصحة السيئة. فبالإضافة إلى هزيمة السرطان، عانى مصطفى أيضاً من السكري وأمراض القلب والغدة الدرقية، وفي النهاية استسلم لأمراضه في محبسه. ففي رسالته الخطية إلى الرئيس ترامب ونائبه بنس، والتي هُرِّبت من السجن على يد، بيتر ت. كينغ، نائب مصطفى في الكونغرس عن ولاية نيويورك، طلب المساعدة بقوله: "أنا أموت بالمعنى الحرفي للكلمة". وفي رسالة أخرى كتب: "أرغب في أن يعرف طفليَّ أنني حاربت بكل ما أملك من قوة من أجل حريتهما، وأريدهما أن يعرفا أن الولايات المتحدة عظيمة لأن حكومتنا ستدافع عن مواطنيها بكل ما تملك".

في بعض الأحيان، يصعب عليَّ تحديد الأسوأ بين العيش في خوف دائم من دخول الحرَّاس لتفتيش زنزانتك طوال ساعات الليل حين تكون سجيناً، أم تلقي مكالمات هاتفية تخبرك بوفاة صديق أو قريب في السجن بعد استعادتك لحريتك منه. ومَن تعرَّض منَّا للسجن في الخارج، لا يزال رهيناً للصدمة الناتجة عن القمع الذي واجهنا ومازلنا نعاني منه. 

لكن لعل أقسى الأشياء في وفاة مصطفى، هو فشل الحكومة الأمريكية في تأمين إطلاق سراحه. فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تدعم الجيش المصري بـ 1.4 مليار دولار في شكل مساعدات سنوية، وعلى الرغم من العلاقات الوثيقة بين البلدين، لدرجة أن ترامب أشار إلى السيسي بأنه "ديكتاتوره المفضل" وهي عبارة استخدمتها منذ عام 2017، فقد تعرضت كل الدعوات العلنية والخاصة لإطلاق سراح مصطفى للتجاهل. فكيف يمكن لمواطن أمريكي أن يموت في سجن مصري، في حين أن المسؤولين الأمريكيين الكبار يدافعون عن قضيته؟ هذا سؤال مهم يجب على إدارة ترامب الرد عليه. 

عندما تتقاعس الولايات المتحدة عن التدخل بشكل فعَّال نيابة عن الأمريكيين المحتجزين ظلماً في الخارج، فهي تبث رسالة لكل المتروكين في زنازين سجون العالم مفادها أن حياتهم لا تهم وسط الحسابات السياسية. لكن كل مسجون مضرب عن الطعام، مستميت من أجل الحصول على الحرية كما كان مصطفى حين مات، أو كما كنت حين كنت على حافة الموت عدة مرات. وهم يستحقون ما هو أفضل من المعاناة في سجون رهيبة لأنهم تجرأوا على التطلع لمستقبل أفضل.

تتحدث وفاة مصطفى أيضاً عن مستوى الحصانة التي يتمتع بها المستبدون اليوم، وتواطؤ إدارة ترامب مع مثل هذه المظالم. فهذه المأساة وصمة عار واضحة في سجل ترامب المفرِّط في إعادة الأمريكيين إلى ديارهم. لقد كان لدى الحكومة الأمريكية نفوذ تجنبت استخدامه بشكل متعمد على السيسي، مما أدى إلى حمايته وحماية نظامه القاسي من المساءلة.

يجب أن يتغير ذلك. ينبغي على الولايات المتحدة أن تستخدم نفوذها بشكل فوري للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين ظلماً، ومن بينهم الأمريكيون، والمطالبة بمنح لجنة الصليب الأحمر الدولي حق الدخول إلى السجون المصرية والإشراف عليها. نحتاج لأن نفعل ما هو أفضل من ذلك.

– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Washington Post الأمريكية. 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد سلطان
ناشط في مجال حقوق الإنسان
معتقل مصري سابق ومناصر ومدافع عن حقوق الإنسان، ومؤسس مبادرة الحرية.