فهمت الدرس جيداً بعد حروب متعاقبة.. لماذا أصبحت ألمانيا مهتمة بالمساهمة في حل الأزمات السياسية بالمنطقة؟

عدد القراءات
6,881
عربي بوست
تم النشر: 2020/01/22 الساعة 11:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/01/22 الساعة 11:36 بتوقيت غرينتش
المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل

تتعدد أدوات التأثير في السياسة الخارجية. ولا يختلف اثنان في أن تأثير الدبلوماسية للدول من شأنه وضع ترتيب الدول من حيث القوة. وتشكل المتغيرات الحاصلة في الساحة الدولية عنصر التحفيز في نشاط الدبلوماسية الدولية وركودها. فكما للتنافس الاقتصادي أهمية في قوة الدولة كذلك هناك دور لا يستهان به في عنصر التنافس الدبلوماسي.

تصاعد تأثير السياسة الخارجية الألمانية في مختلف الأحداث الدولية لم يكن وليد الوقت الراهن أو السنوات الأخيرة. فبالنظر لطبيعة المنظومة الألمانية فهي تحافظ على حدود التزاماتها التوسعية منذ الحرب العالمية الأولى. 

ألمانيا واحدة من بين الدول الأوروبية الهامة التي لها ماض مع الاستعمار، فقد تمكنت ألمانيا من استعمار الكثير من الدول على مستوى العالم وفي قارة إفريقيا، وقد بدأ الاستعمار في إفريقيا منذ عام 1884، وانتهى مع خسارة ألمانيا الحرب العالمية الأولى عام 1919، وانتقلت المستعمرات لتكون تحت سيطرة القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.

ثقل كاهل ألمانيا بالديون التي فرضتها عليها الدول المنتصرة بعد الحرب العالمية الأولى جعلها تحدّ من طموحاتها التوسعية نحو قارتي آسيا وإفريقيا، وانشغلت بإعادة بناء الداخل، لتعود بعد سنوات كقوة عسكرية أوروبياً. ومع تصاعد الدكتاتوريات اللافت في إيطاليا واليابان شكلت ألمانيا الرافد بأن أضحت حلقة وصل وشكلت تحالفاً بات يهدد العالم بأسره. وتقع القوة الألمانية هذه المرة رهينة لأطماع النظام النازي الذي ساقها إلى حرب لم يدرك الألمان عواقبها إلا بعد نهاية الصراع الكوني بتقسيم ألمانيا، وفرض عقوبات لم تقل عن تلك السابقة في الحرب العالمية الأولى.

إدراك الألمان للدروس المتعاقبة من خوضها لحروب كونية وليست إقليمية رسخ في ذهن الفرد الألماني عقيدة الرهبة من تداعيات الصراعات المسلحة، وحجّم صانع القرار عن المغامرة في أي نزاع مسلح، وتجذرت هذه العقيدة من خلال تركيز الأداء في السياسة الخارجية على عنصر الدبلوماسية العقلانية في التعامل مع قضايا العالم المختلفة. وكذا كل المحطات اللاحقة بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي.

إسهام ألمانيا في حلحلة عديد الملفات المتعلقة ببؤر التوتر في العالم لا يمكن إنكاره، وخير دليل مساهمتها في إنهاء معاناة الشعب الأفغاني، بعد غزو الأمريكان لأفغانستان بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001.

دور ألمانيا في الفترة الأخيرة أكسب الدبلوماسية الألمانية وزناً كبيراً، من خلال اعتمادها على مقاربة الأمن الإنساني كأداة لفرض منطق العقل في احتواء الأزمات الدولية الراهنة، وعلى رأسها الأزمة السورية نظراً للبعد الإنساني في الطرح الألماني. ويتجلى ذلك من خلال تبني ملف اللاجئين السوريين وجعله أداة ضغط على المجموعة الأوروبية، إذا أخذنا بعين الاعتبار حجم الحرج الذي وَضعت فيه ألمانيا كلاً من فرنسا وبريطانيا، من خلال دورها في احتواء وحل الأزمات ذات الطابع الإنساني.

دور الدبلوماسية الألمانية غطى على العجز الذي تعيشه أوروبا في السياسة الدولية. مع بوادر الانسحاب النهائي لبريطانيا من المجموعة الأوروبية والمشاكل الداخلية التي تعيشها فرنسا في الشق الاجتماعي بالخصوص.

وفي خضم ذلك شكلت دبلوماسية الهاتف حجر الزاوية في الدور الذي تلعبه ألمانيا في الملف الليبي، وما سيسفر عنه من قرارات هامة في قادم الساعات. فلم تكلف المستشارة الألمانية نفسها سوى الاتصال هاتفياً بقادة الدول الفاعلة في الملف الليبي، حتى تتم تلبية جميع الدعوات بعيداً عن الجولات المكوكية التقليدية في القضايا الدولية السابقة، وهو ما صنع الاستثناء في الدبلوماسية الألمانية.

إدراك صانع السياسة الخارجية بوزن الدول المؤثرة إقليمياً. يمكن أن يفسر لنا انتقاء دول بعينها لحضور المؤتمر، واستبعاد أخرى، على الرغم من ارتباطها جغرافياً بليبيا على غرار تونس التي عبرت عن انزعاجها من استبعادها من المشاركة في المؤتمر الذي انعقد في برلين يوم الأحد الماضي.

فالمملكة المغربية هي الأخرى عبرت عن استنكارها لاستبعادها من المشاركة على الرغم من مبادرتها السابقة بلقاء "الصخيرات"، الذي لم يعمر اتفاقه مطولاً.

سعي ألمانيا لن يتوقف فيه الطموح عن إمضاء اتفاق دائم لوقف إطلاق النار بين الفرقاء الليبيين، بل سيتعداه لمحاولة إيجاد مخارج للأزمة، من خلال مؤتمر ثان، سيتم الإعلان عنه بعد التزام الفرقاء بوقف الاقتتال.

بعيداً عن كل القراءات للدور الألماني في الملف، أدرك صانع القرار الألماني بأن تداعيات الأزمة الليبية ستكون وخيمة على أوروبا، نظراً للنزيف الإنساني الذي ستخلفه الحرب هناك من توافد لقوارب المهاجرين والنازحين من التوترات القادمة في ليبيا، وإمكانية اندساس جماعات إرهابية وسط المهاجرين وما يشكله من تهديدات للمجموعة الأوروبية.

يبقى المشهد الليبي مفتوحاً على كل الاحتمالات. فالمناورة الأخيرة التي قام بها اللواء المتقاعد حفتر من خلال انسحابه من الإمضاء على اتفاق لوقف إطلاق  النار في موسكو هذا ما سيفتح الباب أمام كل الاحتمالات في مستقبل المشهد الليبي.

يبقى من المهم الإشارة إلى الدبلوماسية الوازنة الألمانية في السياسة الدولية، ونجاحها في فرض نفسها كمؤثر وفاعل أساسي من خلال المقاربة الإنسانية -لاعتبارات تاريخية- في حل واحتواء التوترات والأزمات الدولية، وتكيفها مع مختلف التغيرات الحاصلة في الساحة الدولية.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عمار سيغة
كاتب و باحث جزائري
عمار سيغة كاتب وباحث جزائري في طور الدكتوراه متخصص في الدراسات الأمنية والعلاقات الدولية، أستاذ مؤقت في جامعة خنشلة، وجامعة التكوين المتواصل بأم البواقي، متصرف رئيسي بجامعة أم البواقي.
تحميل المزيد