قبل شهر واحد فقط، لم تكن باهرو نيسا، الأم البالغة من العمر 50 عاماً، سوى صاحبة متجر اعتيادي في نيودلهي، تكسب رزقها من بيع المشروبات الباردة للسائحين الذين يزورون أحد أكبر المساجد في قارة آسيا.
لم تخرج لمظاهرة قط طوال حياتها، ولكن كلَّ شيءٍ تغيَّر في 15 ديسمبر/كانون الأول الماضي، إذ شاهدت صوراً على شاشات التلفزيون تظهر فيها الشرطة بينما تهاجم طلاباً يتظاهرون في الجامعة الملية الإسلامية المرموقة (JMI) في العاصمة الهندية ضد قانون مثير للجدل يمنح حق المواطنة للأقليات غير المسلمة من دول مختارة ذات أغلبية مسلمة، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
في تلك الليلة، توجهت باهرو هي وآخرون إلى منطقة شاهين باغ السكنية المسلمة للتعبير عن تضامنهم مع الطلاب، ومعارضة القانون المثير للجدل الذي سُنّ في 11 ديسمبر/كانون الأول ودخل حيز التنفيذ الأسبوع الماضي. ومنذ ذلك الحين تأتي باهرو يومياً للتظاهر، حتى أنها تركت عملها كي تتمكَّن من البقاء طوال اليوم.
الدفاع عن أصوات أطفالنا
تقول باهرو لشبكة CNN الأمريكية، أثناء تظاهرها في منطقة شاهين باغ، يوم الإثنين الماضي، 13 يناير/كانون الثاني، بينما هي جالسة على فراش مرتفع أُعد للنساء الأكبر سناً، متدثرة بشال سميك: "لقد حاولوا كتم أصوات أطفالنا؛ لذا، قررنا نحن الأمهات التصدي لذلك".
باهرو هي واحدة من مئات المسلمين الذين احتلوا الطريق الذي كان صاخباً في منطقة شاهين باغ خلال الشهر الماضي، ديسمبر/كانون الأول، حين اندلعت الاحتجاجات على قانون تعديل المواطنة في جميع أنحاء البلاد. لكن التجمع في شاهين باغ ليس مجرد مظاهرة عادية، إذ يمكن للنساء وحدهن المشاركة في الاحتجاج هنا، بينما يدعمهم الرجال من الجانبين.
ينبض كل شيء بالحياة في موقع الاحتجاجات؛ أطفالٌ يلعبون أمام ملصقات الاحتجاج؛ يتسكعون في الجوار ويركضون خلف رجلٍ يبيع البلالين. باعة جائلون يبيعون الفول السوداني والفشار على الأطراف. حتى أن هناك مكتبة بدائية الصنع، حيث توضع بها الكتب والأقلام الملونة. يكاد يبدو الأمر كما لو أنها أمسية سبت هادئة، باستثناء صوت فتاتين يمكن سماعهما من مكبرات الصوت تهتفان :"فلتحيا الثورة".
كل ليلة، تجتمع النساء والأطفال في وسط خيمة بينما يدعمهم الرجال من الأطراف. تشرع النساء، اللاتي يكثر بينهن جدات وأمهات وشقيقات طلاب من الجامعة الملية الإسلامية، في الغناء وترديد شعارات الحرية، في حين يناقش المتحدثون على المنصة الدستور الهندي. يقدم أفراد المجموعة الشاي والوجبات الخفيفة، بعدما أغلقت العديد من المتاجر القريبة أبوابها تضامناً. ثم يستلقي الكثير منهم فوق مراتب قطنية رخيصة لحين انقضاء الليل.
حتى الشتاء البارد بشكل استثنائي لم يقوَ على ردعهم. ففي 30 ديسمبر/كانون الأول، سجلت نيودلهي أبرد أيامها منذ أكثر من قرن بانخفاض درجة الحرارة إلى 9.4 درجة مئوية. حينها تدثرت النساء بالألحفة وشربن الشاي للتدفئة بدلاً من مغادرة الاحتجاج.
لماذا تحتج النساء؟
بالنسبة للكثيرين، كانت وحشية الشرطة في 15 ديسمبر/كانون الأول هي ما دفعتهن إلى الخروج، لكن المخاوف الأوسع نطاقاً بشأن معاملة رئيس الوزراء ناريندرا مودي للمسلمين هي ما حملهن على البقاء في الاعتصام.
كان مودي قد أعلن أن المسلمين استُبعدوا من مشروع قانون المواطنة؛ نظراً لأنهم ليسوا أقليات في الدول المجاورة للهند. لكن منتقدين يقولون إن مشروع القانون ليس دستورياً في الهند العلمانية، بينما يقلق البعض بشأن عواقب القانون على الـ200 مليون مسلم الموجودين في البلاد، خاصة على خلفية الخطاب المتنامي المناهض للإسلام.
تظاهر حوالي ألفي شخص ضد مشروع قانون تعديل المواطنة في الجامعة الملية الإسلامية في 15 ديسمبر/كانون الأول الماضي. فُضِت الاحتجاجات بواسطة عناصر الشرطة، الذين اقتحموا المكتبة الجامعية قسراً، وأطلقوا الغاز المسيل للدموع. ألقي القبض على العشرات وأصيب المئات، حيث قال الطلاب لشبكة CNN إنهم تعرضوا للضرب على أيدي الشرطة بالعصي والهراوات. في حين أكد عناصر شرطة نيودلهي أنهم كانوا غير مسلحين واستخدموا الحد الأدنى من القوة للسيطرة على الحشود.
يمكن استشعار الغضب في شاهين باغ، حالها كحال أي مكان آخر في البلاد. على الصعيد الوطني، لقى أكثر من 20 شخصاً مصرعهم في الاحتجاجات، لكن هنا في شاهين باغ، كانت الاحتجاجات سلمية.
تقول ناظمة، البالغة من العمر 24 سنة، التي رفضت الإدلاء باسمها الكامل، والتي أحضرت ابنتها إسراء البالغة من العمر عامين للاحتجاج: "إن قانون تعديل المواطنة ضد المسلمين. تريد ابنتي الحرية. إذا لم نكن أحراراً، فلن تكون ابنتي أيضاً حرة".
لم تسمع ناظمة، المحجبة، عن قانون تعديل المواطنة إلا بعد مظاهرات الجامعة الملية الإسلامية. منذ ذلك الحين وهي تأتي إلى الاحتجاج عدة مرات في الأسبوع بمجرد الانتهاء من أعمالها المنزلية، في حين لا تبارح حماتها الاحتجاج أبداً.
مثل كثيرٍ من الآخرين، تخشى ناظمة من أن يكون قانون تعديل المواطنة جزءاً من خطة الحكومة الأكبر لتنفيذ مشروع السجل القومي للمواطنين على مستوى البلاد، والذي يقول إنه يهدف إلى اجتثاث المهاجرين غير الشرعيين، لكن ما يخشاه منتقدو المشروع هو احتمالية استخدامه لاستهداف المسلمين من دون أي توثيق يجري لذلك. حتى الآن لم ينفذ السجل إلا في ولاية آسام الشمالية الشرقية، حيث استبعد ما يقدر بنحو 1.9 مليون شخص من القائمة، وكان أغلبهم من المسلمين.
في ضوء ذلك تقول: "نتساءل ماذا سيحدث للهند؟"، مضيفةً أن أصدقاءها من غير المسلمين توقفوا عن التحدث إليها. وتتابع: "حارب جدي من أجل حرية هذا البلد. نحن مواطنون طُلب منا الرحيل عن البلد. لقد وُلِدنا في حضن هذا البلد والآن يريدون طردنا من هذا الحضن. الأمر يشبه أماً تتخلَّى عن أطفالها".
رد الفعل على الاحتجاجات
بالنسبة للكثير من المتفرجين، تكسر الاحتجاجات الصورة النمطية التي تقول إن النساء يجب أن يلزمن منازلهن.
يقول رياسات علي، زوج ناظمة، والمقاول الذي يبلغ من العمر 29 عاماً: "تمكث أمي هنا طوال الليل، وتراودنا مخاوف من أن شيئاً ما سوف يصيبها. قد يأتي هؤلاء الحمقى (أفراد الشرطة) ويهاجمونهن ذات ليلة. إذا تمكنت الشرطة من اقتحام الجامعة والاعتداء على الناس، فما بالك بمجرد شارع!".
حاله كحال زوجته، يقلق رياسات من احتمالية إعداد سجل للمواطنين على مستوى البلاد، برغم أن عائلته تملك وثائق سليمة. في ضوء ذلك يقول، بينما يتفقد أحد فنون الشوارع التي كانت تحدث في شاهين باغ: "أين سيذهب الآخرون ممن لا يمتلكون وثائق سليمة؟ لن نتخلى عنهم. هذه ليست معركةً من أجل المسلمين فقط، إنها معركةٌ من أجل الجميع".
قالت نازيا شكيل، ربة المنزل البالغة 34 عاماً، إنها تعد الطعام وتنتهي من العمل المنزلي بحلول الساعة 11 صباحاً كل يوم، وتظل في الاحتجاج حتى الساعة الثالثة فجراً. ينضم إليها زوجها، الذي علمها معنى قانون تعديل المواطنة، بعد عودته من عمله، ثم يتجه الزوجان إلى البيت معاً.
لم تنجب نازيا أي أطفال، لكنها قالت إنها تحتج لأجل "الإنسانية".
إذ قالت: "يقول الناس إن علينا الاحتجاج لأجل أطفالنا. ليس لدي أي أطفال، لكنني أفكر في الأشخاص الذين يعيشون في هذا البلد وأفكر في المعاملة اللاإنسانية التي يتعرَّضون لها".
هنا لنمكث
صحيح أن الطرق في شاهين باغ أُغلقت أمام المتظاهرين، إلا أن التماساً قد قُدِّمَ مؤخراً لمطالبة المحاكم بالتدخل ووقف إغلاق الطرق.
من جانبها، رفضت المحكمة العليا في نيودلهي الالتماس يوم الثلاثاء الماضي، 14 يناير/كانون الثاني، وطلبت من الشرطة تقييم الوضع والتعامل معه بنفسها، مع مراعاة "المصلحة العامة الأكبر وكذلك الحفاظ على القانون والنظام".
إلا أن الموقف لا يخلو من التصعيدات؛ إذ رفعت ولاية كيرالا دعوى قضائية ضد قانون تعديل المواطنة، بدعوى أنه غير دستوري. ومن المتوقع أن يُنظر في هذه القضية، ضمن العشرات من القضايا، في المحكمة العليا، أعلى هيئة قضائية بالهند.
لكن يبدو أن النساء اللاتي تحدثن إلى الـCNN عازمات على البقاء في الاعتصام.
تقول نيسا، التي دخلت إضراباً عن الطعام منذ أسبوعين، إنها لن تأكل إلا بإلغاء مشروع السجل الوطني وقانون تعديل المواطنة.
إذ تقول: "أنا مستعدةٌ لأن أموت لأجل هذا الأمر. لقد مات الكثير من الناس بالفعل لأجله. إذا تراجعوا عن مشروع القانون، فسوف نغادر".
تشارك نور نيسا، التي لا تقرب لنيسا، في الاحتجاجات منذ 15 ديسمبر/كانون الأول، ولديها نفس الشعور.
إذ تقول السيدة البالغة من العمر 70 عاماً: "إننا نناضل لأجل أطفالنا، فالأمر لا يتعلَّق بي، لن أكون على قيد الحياة لفترة طويلة".