هل بدأت مرحلة العنف الثوري في لبنان؟، ومن هو المسؤول عن المشاهد المؤسفة للمواجهات بين المحتجين والأمن، وما هو دور الإخوان المسلمين والشيوعيين وحزب الكتائب المسيحي في هذه المواجهات، وما موقف الجيش اللبناني مع توا نذر إنزلاق البلاد للعنف، والأهم من بدأ بالعنف؟
أسئلة عديدة تحتاج إلى إجابة في ظل تدهور الأوضاع في لبنان إلى مستوى غير مسبوق.
فمنذ انطلاق ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأول، كان العنوان الرئيس للمتظاهرين "السلمية" على الرغم من الاعتداءات المتكررة لعناصر حزب الله وحركة أمل على المتظاهرين والمعتصمين في وسط بيروت، وممارسات قيل وقتها أنها فردية للقوى الأمنية خلال تعاطيها العنيف مع الناس في الشارع، بقيت التظاهرات تأخذ شكلاً سلمياً وحتى أنها تراجعت بزخمها عقب انطلاق عجلة تشكيل الحكومة بعد تكليف حسان دياب برئاستها، ظناً من الناس أن هناك أملاً بتشكيل حكومة مستقلين وكفاءات تعيد لبنان إلى السكة الطبيعية.
ولكن هذا الأسبوع شهدت البلاد تصاعداً خطيراً للعنف.
وجرح نحو 400 شخص في لبنان إثر مواجهات مساء السبت 18 يناير/كانون الثاني 2019، بين متظاهرين وقوات الأمن في بيروت، في أعنف يوم منذ بدء الحركة الاحتجاجية.
وأعلن الأمن الداخلي اللبناني تعرض بعض المتظاهرين بشكل عنيف ومباشر لعناصر مكافحة الشغب على أحد مداخل مجلس النواب، ولكن المحتجين كان لديهم رواية أخرى عما جرى.
في البداية كانت الحكومة
ما تسرب عن الأسماء والصراعات على الحصص أفقد المنتفضين أملهم بحل مع هذه السلطة، ما عزز عندهم الرغبة بالعودة إلى الشارع بشكل تصاعدي للضغط على السلطة بالتراجع عن فكرة السطوة على قرار الحكومة اللبنانية المنتظرة وأن يكون هدف تشكيل الحكومة هو الحل وليس تقاسم المغانم.
وعلى الجانب الآخر كانت الفضائح الدولية تظهر تباعاً؛ من حرمان لبنان من حقه بالتصويت بالأمم المتحدة ومنظمة حقوق الإنسان بسبب عدم دفعه لمستحقاته المالية المتوجبة عليه كدولة شريكة، في حين أن أزمة اقتصادية بدت تطل برأسها على البلد أمام غلاء سعر صرف الدولار ما يعني خسارة الموظفين لحوالي 40% من قيمة مرتباتهم وأزمة البنوك الممتنعة عن صرف رواتب الموظفين وإيداعات الناس، ما شكل عامل ضغط على الشعب المتأزم أصلاً قبل اندلاع ثورة 17 تشرين.
وجه آخر للرواية.. الشرطة بدأت بالعنف
نزل الناس مساء السبت في تظاهرة دعت لها قوى الحراك ومجموعات مدنية، وتجمهروا عند أحد مداخل البرلمان اللبناني وسط بيروت.
وباغتت القوى الأمنية المحتجين وبدأت بضرب قنابل الغاز والرصاص المطاطي، ما استفز المتظاهرين، حسب روايات المحتجين.
وأدى ذلك إلى مواجهة امتدت حتى منتصف الليل، أدت لإصابة المئات واعتقال عشرات الشبان.
وقال أعضاء بالحراك إن الاعتقالات كانت عشوائية وطالت متظاهرين لم يواجهوا القوى الأمنية، وتم اقتيادهم لأقبية التحقيق والاعتداء عليهم.
ينظر الكثيرون لما حدث بأن هناك قراراً سياسياً بقمع أي محاولة شعبية للتظاهر قبل تشكيل الحكومة المتصارع عليها بين أبناء الفريق السياسي الواحد.
كان التعاطي الحاد للقوى الأمنية شبيهاً بحسب ناشطي الانتفاضة بممارسات أنظمة الاستبداد في الربيع العربي.
شهادات من المحتجين
يقول جاد وهو ناشط يساري في الانتفاضة إن جهاز مكافحة الشغب بدأ بضرب المتظاهرين في كل الشوارع المؤدية لوسط بيروت بطرق وحشية وقاسية، وقام باعتقال عدد من المتظاهرين من الحافلات أثناء عودتهم لمناطقهم التي أتوا منها للمشاركة دون وجه حق ووجهوا الشتائم والكلمات المسيئة للناس دون خجل، وقام بمصادرة بعض الهواتف لمسح تسجيلات تثبت التعاطي العنيف مع المتظاهرين وهذا مخالف للدستور، فتفتيش الهواتف يحتاج لقرار من المدعي العام لأنه يمس خصوصيات الناس.
وتصف أروى الناشطة المدنية في الانتفاضة كل الكلام عن التكسير وقطع الشجر واستهداف شركات الاتصالات في وسط بيروت والتي تشارك في عملية نهب المواطن اللبناني، بأنه كلام "سخيف".
إذ تقول: السلطة تسرق حياتنا، تقطع يومياً آلاف الأشجار، تهمل الأحراج، تغطي عملية اقتلاع الجبال عبر كسارات تعطى لمستثمرين من حلفاء الأحزاب، تسمح للمافيات بالتهريب عبر المطارات والمرافئ دون رقابة.
بعض النواب سرقوا الأملاك البحرية وخصصوها لاستثماراتهم السياحية، وبعدها يتحدثون عن تقطيع شجرة وتمزيق لافتة وخلع إشارة ضوئية.
تضيف أروى: "هذه ثورة وليست حفلة غنائية وكل الثورات وحتى في فرنسا وألمانيا يقوم المتظاهرون بأعمال شغب نحن لم نعتد على الأملاك الخاصة ولن نعتدي، السلطة وشبيحتها هم المستهدفون فقط".
تظهر هذه الشهادات الأزمة التي وقعت فيها البلاد، الرواية السلطوية تبرر القمع جراء ما تعتبره اعتداءات من المحتجين، والرواية الثورية، تقلل من أي عنف وتلتمس له العنف بأنه لا يقارن بعنف السلطة وجرائمها.
اقتحام لأبرز مسجد سني
يرفض عمر (الإسلامي التوجه) محاولة القوى الأمنية لاقتحام مسجد محمد الأمين (الذي بناه رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري) الذي كان يأوي عشرات المصابين، والذي تحول لملاذ آمن للمحتجين الهاربين من بطش مكافحة الشغب.
ويؤكد عمر أن مثل هذه الممارسات تكرس لدى مجموعة لا يستهان بها من اللبنانيين أنهم مستهدفون، فمسجد محمد الأمين في وسط العاصمة بيروت كان محطة تجمع كل اللبنانيين وغير اللبنانيين والسياح الأجانب بكونه تحفة معمارية حديثة.
محاولات اقتحام المسجد لقيت بحسب عمر رفضاً واسعاً من الشباب الإسلامي المشارك في الانتفاضة، وهذا ما جعل أمين الفتوى الشيخ أمين الكردي ينزل لتفقد الأضرار التي لحقت بباحة المسجد، ورفض التعرض للمتظاهرين السلميين في باحة المسجد وداخله.
الحريري يؤيد ما فعلته القوى الأمنية
سارع رئيس تيار المستقبل سعد الحريري بعد أحداث السبت إلى التغريد عن الأحداث واصفاً المتظاهرين "بالمرتزقة" داعياً الجيش والقوى الأمنية حسب وصفه الى حماية العاصمة ودورها وكبح جماح العابثين والمندسين، ما اعتبر وقتها أنها غطاء للقوى الأمنية بفض التظاهرات بالقوة.
أشعل كلام الحريري مواقع التواصل والتي ردت على كلامه معتبرة أن بيروت لكل اللبنانيين وليست حكراً على طبقة مخملية من اللبنانيين، وحملته مسؤولية أساسية بوصول البلاد لهذا المستوى من الواقع المأزوم كونه شريكاً لحزب الله والتيار الوطني الحر في صفقات الفساد والمحاصصة منذ نهاية العام 2016.
استعراض الجيش.. رسالة لمن؟
لم يكن استعراض الجيش لوحداته في وسط بيروت موجهاً للمتظاهرين، حسب وجهة النظر السائدة في الأوساط السياسية.
لأن الجيش اللبناني، ومنذ اليوم الأول للانتفاضة يرفض الدعوات الموجهة له بقمع المنتفضين، وهذا ما عبر عنه قائد الجيش جوزيف عون مراراً وتكراراً أمام ضباطه وعناصره، رافضاً محاولات زج الجيش في قمع شعبه، مؤكداً أن الجيش واجبه تأمين حياة الناس.
وعلى الرغم من الكلام الذي كانت تقوله وسائل إعلام السلطة وتلميحها المتكرر عن تقصير الجيش، إلا أنه بقي في إطار دوره الأساسي وهو حماية المتظاهرين وعدم السماح بالتعرض لهم.
لكن في الأروقة السياسية كان يبدو أن رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل يخشى أن يكون قائد الجيش مرشحاً متوافقاً عليه لرئاسة الجمهورية خلفاً لحماه ميشال عون، هذا ما جعل باسيل غاضباً من رفض الجيش إنهاء وفض التظاهرات في طرابلس وبيروت.
فالجيش اللبناني مثل خلال مراحل الجمهورية اللبنانية بعد خروج الانتداب الفرنسي محل احترام شعبي، على الرغم من بعض الممارسات التي تقوم بها مخابرات الجيش أحياناً في الساحة اللبنانية.
وعلى الرغم من تعليقات الناشطين في الحراك برفض هذه المظاهر المستفزة والتي قد تستخدم في ترهيب الناس من احتمال نزول الجيش، لكن يبدو أن الرسالة التي فهمت من مواقف الجيش للقوى السياسية هي أن الجيش مؤسسة مستقلة وغير خاضعة لإملاءات القوى المتصارعة على السلطة، وأنه جاهز في حال أدت الأمور إلى مواجهات بين الأحزاب والمتظاهرين، وأنه لن يسمح بجر البلد للمجهول بسبب تعنت أحزاب السلطة.
الإخوان والشيوعيون والكتائب.. محاولة للمشاركة في ثورة تخرج عن السيطرة
لا شك أن هناك أحزاباً سياسية معارضة معينة وجدت في تحركات السبت والأحد متنفساً لها في ظل سيطرة أحزاب بعينها على قرار البلد وإحكامها على الملفات الرئيسية دون إشراك باقي القوى معها في اللعبة السياسية.
وقد برز هذا الواقع بالقانون الانتخابي الذي أجريت عليه الانتخابات البرلمانية منتصف عام 2018، لتحرم أحزاب صغرى من المشاركة السياسية البرلمانية، وقد سمي حينها القانون "بقانون جبران باسيل"، والذي فصل على قياسه بعد فشله باستحقاقات 2005 و2009 من الوصول لقبة البرلمان، وغيبت الانتخابات الأخيرة أحزاباً وقلصت أحجام أخرى، كالحزب الشيوعي والجماعة الإسلامية وحزب الكتائب والذي نزل عدد مقاعده من 6 إلى 3 نواب.
لكن مع انطلاق شرارة الانتفاضة في أكتوبر/تشرين الأول، برزت هذه الأحزاب كشريك رسمي في الاحتجاجات.
فحزبا القوات والكتائب تركز حضورهما في تظاهرات منطقتي جل الديب وذوق مصبح، في حين عمل الحزب الشيوعي على فرض حضوره في ساحة رياض الصلح وساحة النجمة.
في الوقت نفسه أعادت الانتفاضة الروح لجسد التنظيم الإخواني (الجماعة الإسلامية)، بعد ضربات سياسية وإخفاقات متكررة لتجد الجماعة من طرابلس وصيدا وساحة الشهداء متنفساً جديداً لفرض الحضور وتعزيز المكانة.
لكن مع أحداث يومي السبت والأحد لم تستطع هذه الأحزاب السياسية الإمساك المباشر بشارعها نتيجة التحديات الجديدة التي فرضت نفسها على الثورة.
هذه الأحزاب تعرف تماماً التعامل مع عنف الأنظمة كونها عايشت مرحلة حكم البعث السوري على لبنان وذاقت منه الأمرين، خلال الفترة الممتدة من 1975 للعام 2005.
وخلال العنف الذي حدث في الأيام الماضية، فتح حزب الكتائب مركزه عند مدخل بيروت للمتظاهرين الهاربين من بطش مكافحة الشغب، وعمل شباب من الجماعة الإسلامية على تأمين الحماية للمتظاهرين في محيط مسجد الأمين في ساحة الشهداء فيما عزز الحزب الشيوعي والمجموعات اليسارية دورهم في مجابهة القوى الأمنية في محيط رياض الصلح ومتفرعاته، ما يعني اتساع رقعة المشاركة في المعارضة إلى جانب القوى والمجموعات المدنية الأخرى.
لماذا المصادر مجهولة في هذه القصة؟
توافق « عربي بوست » أحياناً على عدم التعريف بأسماء مصادر تقدم معلومات حساسة لقرائنا. وبموجب إرشادات الموقع، نستخدم المصادر المجهولة فقط للمعلومات التي نعتقد أنها تستحق النشر وذات مصداقية، وأننا غير قادرين على الحصول عليها بأية طريقة أخرى.
ندرك أن العديد من القراء يشككون في مصداقية ودوافع المصادر التي لم يتم الكشف عن أسمائها، وبعضهم يتساءلون ما إذا كانت هذه المصادر موجودة أصلاً. لكن لدينا قواعد وإجراءات لمحاولة معالجة هذه المخاوف.
فبالإضافة إلى المراسل، يجب أن يعرف محرر واحد على الأقل هوية المصدر. ويجب أخذ موافقة مسؤول القسم أو من ينوب عنه قبل استخدام المصادر المجهولة في أية قصة. وعندما تكون القصة مبنية على معلومة مركزية من مصدر مجهول، فيجب الموافقة عليها بشكل عام من قبل رئيس التحرير.
نحن نتفهم حذر القراء، ولكن لا يمكن أبداً الحصول على المعلومات حول العديد من القصص المهمة في مجالات حساسة، مثل السياسة والأمن القومي والأعمال، إذا استبعدنا المصادر غير المعرّفة. فالمصادر غالباً تخشى على وظائفها أو علاقاتها التجارية. حتى في بعض الأحيان من أجل سلامتها.
يعتقد بعض القراء أن المصادر تكون أكثر صدقاً إذا تم نشر أسمائها، ومن غير المرجح أن يكذبوا إذا تم الكشف عن هويتهم. إلا أن المراسلين في العديد من المناطق يعرفون أن العكس هو الصحيح. فالمصادر في المناصب الحساسة غالباً ما سيتحدثون ببساطة بحسب التوجهات الرسمية. وسيكونون صريحين فقط إذا كانوا يعرفون أن أسماءهم لن يتم الكشف عنها.