ملف الغاز في مصر أحد أغرب ملفات البلاد، فلا أحد يستطيع الحسم؛ هل مصر دولة مصدرة أم مستوردة أم مكتفية ذاتياً من الغاز؟.
فبالرغم من أننا نتحدث عن ملف اقتصادي المفترض فيه الشفافية وإتاحة أكبر قدر من المعلومات، إلا أن العديد من الأسئلة دون إجابات دقيقة: كيف تحولت مصر من مصدر لمستورد؟ وهل لديها الآن فعلاً اكتفاء ذاتي من الغاز بعد كل تلك الكشوفات المعلن عنها؟ وإذا كان هذا حقيقياً فلماذا تستورد من إسرائيل إذن؟ التي كانت بالأمس تصدر إليها!، وما حقيقة حقل الغاز الأقرب لدمياط منه إلى تل أبيب، مع ذلك فقد أصبح حقلاً إسرائيلياً.
"عربي بوست" تواصلت مع أطراف القصة، في محاولة للإجابة على تلك الأسئلة.
هل تستورد مصر الغاز الإسرائيلي لتعيد تصديره أم للاستهلاك المحلي؟
في الخامس عشر من يناير/كانون الثاني 2019، أعلن وزير البترول والثروة المعدنية المصري طارق الملا، ونظيره الإسرائيلي يوفال شتاينتز، عن بدء ضخ الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى مصر. وهو الإعلان الذي أثار ردود فعل متباينة على صفحات التواصل الاجتماعي، خصوصاً مع التضارب في تصريحات الوزيرين.
فالجانب المصري أكد أن الهدف من استيراد الغاز الإسرائيلي هو تسيله في محطات الإسالة المصرية ثم نقله إلى أوروبا، وذلك فى إطار دور مصر المتنامي كمركز إقليمي للغاز.
ولكن شتاينتز صرح، عبر موقع إسرائيل بالعربية بشيء مختلف.
إذ قال إن الغاز الإسرائيلي سيم استخدامه في السوق المحلي المصري لإنتاج الكهرباء وفي الصناعة.
وهو التصريح الذي عاد الوزير الإسرائيلي ليظهر على نفس الموقع في شريط فيديو مسجل ليتراجع عنه، متحدثاً عن مصر كمركز إقليمي وكيف أنها ستنقل غاز إسرائيل لأوروبا في مشهد بدا وكأنه ترضية للجانب المصري الذي أحرجه تصريح الوزير السابق.
كيف تحولت مصر من مصدر إلى مستورد؟
عربي بوست التقت بـ"سمير جريس" المدير بأحد شركات التنقيب الأجنبية الذي شرح لنا كيف تحولت مصر من مصدر إلى مستورد قائلاً: العمر الافتراضي لآبار الغاز الطبيعي أقل بكثير من آبار البترول، فبئر البترول من الممكن أن يظل في الخدمة لما يقرب من 15 عاماً أما بئر الغاز فينضب بعد 3 أعوام تقريباً، لذلك فيجب استمرار الكشوفات والبحث بشكل مستمر إذا أردت تأمين وجود الغاز.
وهذا ما لم يحدث في مصر، بل العكس تماماً هو ما حدث.
ففي السنوات العشر الأخيرة، توقفت أعمال التنقيب والبحث عن الغاز في مصر تقريباً لسببين.
أولهما تعثر الحكومة المصرية في سداد الأقساط المستحقة للشركات المنقبة عن الغاز، الأمر الذي دفع كثيراً منها للتوقف عن التنقيب، ثم جاءت ثورة يناير وما صاحبها من انفلات أمني، فتوقف العمل تماماً وقلت معه قدرات مصر على إنتاج الغاز، في الوقت الذي نشطت فيه إسرائيل في التنقيب، وبالفعل اكتشفت حقل ليڤياثان والذي تقدر احتياطياته بنحو 16 تريليون قدم مكعب من الغاز. وهو احتياطي مهول بالطبع.
أقرب لدمياط منه لتل أبيب.. اللغز الأكبر في ملف الغاز في مصر
وبعيداً عن الإشكالية المطروحة حول أحقية مصر بهذا الحقل باعتبار أنه أقرب جغرافياً لميناء دمياط منه إلى ميناء حيفا.
فالثابت أنه آلت ملكيته لإسرائيل، وأنها نجحت في استخراج الغاز منه وتحولت من دولة مستوردة للغاز إلى مصدرة، على عكس مصر التي زادت احتياجاتها وقلت كشوفاتها فتحولت للاستيراد.
مع استقرار الأمور السياسية في مصر من جانب وسداد بعض المديونيات للشركات المنقبة من جانب آخر، بدأت تظهر كشوفات غازية من جديد، ولم يمض كثير من الوقت حتى أعلن وزير البترول المصري في أكتوبر/تشرين الأول 2018، أن مصر حققت الاكتفاء الذاتي من الغاز.
ومن ثم أتى قرار مصر باستيراد 85 مليار متر مكعب من الغاز بقيمة 19.5 مليار دولار من حقلي لوثيان وتمار الإسرائيليين على مدى 15 عاماً. ليبدو غريباً وغير مفهوم.
فكيف تعلن أنك مكتف ذاتياً ثم تستورد الغاز من إسرائيل.
وأيهما أصح، ما قاله الوزير المصري أن الهدف هو تصدير الغاز الإسرائيلي للخارج أم التصريح الأول للوزير الإسرائيلي بأن الهدف تلبية الاحتياجات المصرية الداخلية.
"جبنا جول"
في مكالمه هاتفية لـ"عربي بوست" مع حمدي عبدالعظيم المتحدث الرسمي لوزارة البترول، للاستفسار عن حقيقة وضع الغاز الطبيعي في مصر، أجاب: لقد نجحنا منذ أكثر من عام في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز والذي يبلغ استهلاكنا منه 6 مليارات قدم مكعب غاز يومياً .
وأوضح أن أكثر من 60% منه يذهب للكهرباء وما يقرب من 35% للصناعة، ولدينا فائض الآن ما يقرب من مليار قدم مكعب غاز نصدره يومياً.
وعن السبب وراء استيراد الغاز الإسرائيلي.. قال: هذه محض تجارة، الولايات المتحدة أكبر دول العالم تستورد غازاً وتبيعه، هذا أمر معتاد أن تقوم شركة خاصة بالتعاقد مع شركة إسرائيلية لشراء الغاز ثم إعادة بيعه وتحقيق هامش ربح من هذا.
وفقاً لحديث المتحدث الإعلامي والذي رفض التعليق على تصريح الوزير الإسرائيلي عن أن الغاز مورد لمصر للاستهلاك المحلي، فإن الصفقة رابحة، ومصر مكتفية ذاتياً، بل وتصدر مليار قدم مكعب غاز يومياً، وسوف تتاجر في الغاز الإسرائيلي وتتحول إلى مركز إقليمي هام للغاز، الأمور ممتازة إذن ومصر بالفعل "جابت جول"، حسب تعبيره.
التصدير محض هراء
لكن على الجانب الآخر هناك تحليل مغاير للقصة يقدمه لنا أحد وكلاء وزارة الطاقة و(الذي طلب إخفاء اسمه)، قائلاً: تصريحات الوزارة والحديث عن اكتفائنا الذاتي وتصديرنا الفائض يومياً هو محض تلاعب بالحقائق.
"أولاً دعني أشرح لك شيئاً مهماً، والحديث للمسؤول الحكومي: الغاز ليس ملكاً للبلاد كما يسوقون، الغاز هنا يتم اقتسامه بنسب بين الشركة المنقبة، فمثلاً حقل ظهر تمتلك مصر (ممثلة في الشركة القابضة للغازات الطبيعية "إيجاس"). ما يقرب من 40% فقط من إنتاجه أما الباقي فموزع بين شركات إيني الإيطالية، بريتيش بتروليوم البريطانية، روزنفت الروسية، ومبادلة الإماراتية.
هذه الشركات يحق لها بيع المنتج إما إلى الحكومة المصرية، أو تصديره للخارج، وهو ما يحدث بالفعل، جزء نشتريه منهم وجزء يصدرونه.
فعندما يقول الوزير إن الغاز المصري يكفينا محلياً ونصدر منه، فهذا (نظرياً) سليم لأنه فعلاً يكفي، لكن عملياً غير دقيق لأن هذا الغاز تشتريه من الشريك الأجنبي، والغاز المصري المصدر هو عملياً ملك لتلك الشركات، أي أنك ببساطة لم تكتف ذاتياً ولم تصدر، لأن نصيبك من الغاز ببساطة لا يكفيك.
وهنا يصبح تصريح الوزير الإسرائيلي ذا معنى، حسب محدثنا، الذي يقول "لاحظ أن شركة "دولفينوس القابضة" التي عقدت الاتفاق مع الجانب الإسرائيلي لاستيراد 85 مليار متر مكعب من الغاز بقيمة 19.5 مليار دولار، هي شركة مملوكة للمخابرات العامة، فالحديث إذن عن أن القطاع الخاص يتاجر مع إسرائيل منه لنفسه كما يسوقون هو محض هراء"، حسب تعبيره.
ولكن أصلحنا أزمتين بصفقة واحدة
وعن ملابسات التعاقد الأخير مع إسرائيل.. يعلق الخبير الحكومي قائلاً: مبدئياً دعني أخبرك أن الاتفاق هذا وما سبقه من اتفاقات تمت بواسطة المخابرات المصرية وليست الوزارة، نحن لا سيطرة لنا على الملف الذي يدار الآن برمته من قبلهم.
لكن يمكن شرحه فلسفة الاتفاق مع إسرائيل، والتي بدت كحل منطقي لأزمتين تواجهان مصر.
الأزمة الأولى: هي الحكم الدولي الصادر علينا بدفع غرامة قدرها 1.7 مليار دولار لشركة كهرباء إسرائيل نتيجة لإخلالنا بالعقد المبرم بيننا وبينهم في 2005، والذي يلزمنا بتصدير الغاز إليهم لمدة 15 عاماً بسعر ثابت (75 سنتاً للمليون وحدة حرارية).
الأزمة الثانية: هي الحكم الصادر علينا بدفع ملياري دولار كتعويض لشركة "يونيون فينوسا" الإسبانية عن توقف إمداد الغاز المصري إلى محطة إسالة دمياط والتي تمتلك مصر 20% منها فقط والباقي ملك الشركة الإسبانية.
ومن هنا أتت الفكرة كحل بدا عبقرياً للمفاوض المصري لتسوية كافة النزاعات بضربة واحدة؛ نستورد الغاز الإسرائيلي في مقابل تسوية القضية معهم، ونسيله في محطة دمياط في مقابل تسوية القضية مع الإسبان، وبهذا يكون الجميع رابحاً وجبنا جون، حسب تعبيره.
الغاز الإسرائيلي سيذهب أغلبه للاستهلاك المحلي.. فكيف ستصبح مصر مركزاً إقليمياً للطاقة؟
لكنه يستدرك قائلاً "المشكلة أن الغاز الإسرائيلي الذي أعلم جيداً أنه سيضخ بالأساس في الشبكة القومية للاستهلاك، لن يتبقى منه شيء للتصدير، وإن بقي سيكون ذراً للرماد في العيون ليس أكثر".
حديث المسؤول الحكومي يجعلنا نتساءل عن حقيقة فرص مصر في التحول إلى مركز إقليمي للغاز.
وللإجابة عن هذا السؤال توجهنا إلى سمير جريس المدير بإحدى شركات التنقيب الأجنبية، الذي أجابنا قائلاً: قطر نجحت في التحول إلى مركز إقليمي ليس فقط لامتلاكها الغاز، لكن أيضاً لامتلاكها بنية تحتية قادرة على إسالته فضلاً عن أسطول ضخم لنقل الغاز المسال إلى نقاط تسلمه.
أما مصر فلا تملك سوى محطة إدكو للإسالة وطاقتها السنوية ١٠ مليارات متر مكعب غاز، و20% من محطة دمياط وطاقتها السنوية ٧.٥ مليار متر مكعب، وهي المحطة التي عليها حكم بالغرامة للشركة الإسبانية التي تملكها بسبب عدم توريدنا للغاز لها.
فلو فرضنا أن مصر سوت الحكم مع الشركة الإسبانية فمعنى ذلك أننا لدينا القدرة على إسالة 17 مليار متر وهذا الرقم زهيد جداً، إذ يجب مضاعفته ثلاث مرات على الأقل إذا كنت حقاً تريد أن تصبح مركزاً إقليمياً لتصدير الغاز إلى أوروبا التي تستورد في العام ما يتجاوز الـ٤٠٠ مليار متر مكعب غاز، تستحوذ روسيا على نصفها والباقي هو سوقك المنطقي الذي تسعى للحصول على نصيب معقول منه.
وبدون امتلاك قدرة الإسالة تلك، فضلاً عن أسطول نقل قوي، فالحديث عن تحولنا لمركز إقليمي هو ضحك ع الدقون، حسب تعبيره.