جلست زائرتي أمامي تحدثني عن مدينتي الأولى، تصف جمالها.. سماءها الزرقاء، وشروق الشمس فيها الذي يخطف الأبصار، ثم غروبها الحزين، وانعكاسات الأشعة البرتقالية على مبانيها.. عن أهلها الدافئين المرحبين بالغرباء. استمعت إليها باهتمام ومؤشر الحسرة في قلبي يتزايد بالتدريج.. مدينتي في عين الغريب ليست كما هي في عين أهلها.
مدينتي التي تغرّبت عنها في طفولتي، وكنت أعود إليها في الصيف حاملة أشواقي التي لا تنضب لترابها، وأشجارها، وأهلها.. كانت روحها تسكنني، وكنت أتعلق بشدة بها، وأخشى مفارقتها.
تعود إليّ الذكرى حين أمسكت خالتي بيدي ونزلنا إلى وسط البلد، "نزلنا" لأن المدينة جبلية صعبة، تناولنا طعام الغداء في أحد مطاعمها الشعبية ثم أهدتني قرطاً طويلاً على شكل قلب ليتناسب مع قصّة شعري القصيرة. وفي طريق العودة، أبكاني صوت فيروز في الحافلة وهي تغني "راجعين يا هوا".. لم أرغب في مفارقة المدينة.. إنها تعشش في داخلي، وتتنفسها خلاياي… أنا أشعر بروحها في داخلي.
تتحدث زائرتي، وأعود بذاكرتي إلى زمن بعيد.. وأحاول استعادة الذكريات بصعوبة؛ فأنا لم أعد أجد هذا المزيج الساحر بين أهلها وحجارتها، لم تعد تفتنني طرقها وجبالها ووديانها، وشتاؤها وصيفها.. حتى ياسمين شوارعها فقد عبيره.. المدينة لم تعد تضمُّنا ولم تعد تحسن إلينا، بل على العكس، أصبحت تمتصُّنا، ترهقنا فلم نعد نأبه لشروقها أو لغروبها أو لألوانها.
الشرفات التي تسرح فيها الشمس خالية، كأن أهلها لا يجرأون على العيش.. ما معنى أن تبني شرفة ولا تطل منها على الحياة؟ الشرفات مفاتيح المدن.. مداخلها.. عندما تكون الشرفات خالية فهذا يعني أن المدينة قد بدأت تفقد روحها.
أدخل المقهى مبتسمة فيسألني النادل: هل أنت من هذا البلد؟ ولمَ لا أكون منها؟! فيجيبني: لأن أهلها ببساطة لا يبتسمون.. أعترض على هذا التجّنّي بابتسامة أعرض، وأخبره أني من هنا، لكن شيئاً ما تغيّر. فيعلّق: لم نعد نفعل الأشياء لقيمتها أو لأننا نحبها.. نحن نتظاهر بحب الأشياء، وعندما نتظاهر تفقد الأشياء جوهرها.
أثناء القيادة التي تغتال فيك يومياً جزيئات طاقتك الإيجابية، تطلق غمازك لتغير مسربك، فتنقض عليك السيارة التي خلفك مسرعة، لا تريد لك أن تأخذ مكانها، ربما إذا مددت يدك، سيسمح لك سائقها بذلك، لأنك قد تسرق منه قطعة الأسفلت هذه وتتجاوز عن قيمة الاستئذان إذا لم تفعل.
في فصل الشتاء تغرق المدينة، فشبكات الصرف ترفض القيام بواجبها، معترضة على أموال نُهبت ولم تنفق على صيانتها، وعلى أشخاص يلقون بنفاياتهم من نوافذ سياراتهم ليسدّوا بها مصارف الأمطار. فالذي نهب والذي ألقى بنفاياته لا يشعران بالانتماء إلى المدينة، فالأول لا ينتمي إلا لثروته، والثاني لا ينتمي إلا لسيارته، والمدن لا تستطيع أن تغطي قبح أهلها بالجمال.
حتى التسول فقد روحه في مدينتي، فأنت لا تشعر بالتعاطف مع مجموعة المتسولين الذين تراهم يومياً يكررون نفس المشاهد المملة التي تخلو من الإبداع، فمشهد الطفل الذي يتصنع البكاء بعد أن ألقى ونثر حبات العلكة بالقرب من إشارة المرور، لم يعد يحرّك فينا ساكناً.. المرأة التي تركض بهلع بين السيارات على الإشارة، وترتدي ثياب الصلاة، تدق على نوافذ السيارات وتتلفظ بعبارات بالية، تثير فينا مشاعر الغثيان. كم فكّرت في أن أفتح النافذة وأطلب منها أن تنتقل إلى مكان آخر، في موعد آخر، فمعظم من يقف على الإشارة يعود من عمله في نفس الوقت. إننا لا نتعاطف مع المتسولين أيضاً، لأنهم فقدوا روح الإبداع.
ربما سيقول لي البعض: لم يعد للبشر أرواح تنبض بالحياة كما السابق. لماذا إذاً سيكون لدى المدينة هذه الروح المجازية؟ ربما بسبب التأثيرات القديمة.. ربما كانت أشجارها وجبالها مسكونة بالأرواح الساهرة، وربما ندعي ذلك بسبب الحنين إلى الماضي، والقلق الذي ينتابنا بسبب التغييرات الديموغرافية والاقتصادية.
عندما تشعر المدن بالحياة، تخرج صباحاً من تحت الركام وتترك الشمس لتسرح في ساحاتها فيتبخر الخوف من معاطف الفقراء، وتعانق أشعتها المباني الحجرية، وتتحول ظلال البؤس إلى اجتماعات دافئة على مقاهيها العتيقة، وتتلون أزقتها بالألحان والضحكات، وينتشر الرضا بين أحيائها، وتعلو الابتسامة وجوه البشر فيها، عندها ستطلق غماز سيارتك وتغيّر مسربك دون خوف أو وجل، وستمدّ يدّك ملوّحاً شاكراً لا مستأذناً؛ فروح المدينة لا بد تتعلّق بساكنيها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.