"الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن"
من حلب إلى الغوطة الشرقية، ها نحن نودّع آخر جزء من الوطن إدلب،
مع نهاية سنة قديمة وبداية سنة جديدة.
زاد المعتقل من سجنه سنة، والمصاب عانى سنة إضافية من إعاقته، والمغترب والطفل والشهيد والظالم والمظلوم والذي لم أستطع ذكره كلهم ازدادوا سنة.
لم أكن الفاقد الوحيد للوطن، إلا أني فقدته بشكل مختلف، رغم صعوبة الحياة وقسوتها وانعدام الأمان في الوطن صبرت، لأن الواو من حروف العطف، والعطف شعور مخبأ في داخلنا، وهو من سمات الأم أيضاً، والطاء لا توجد عند أحد إلا العرب، والنون ثقيلة وتحتاج لأنين، وبعده إلى الغربة والتهجير.
مع تراكم السنين تتبلّد المشاعر المنبثقة للوطن. في الأشهر الأولى من الغربة ترى كل شيء حولك يشبه وطنك، من حَانٍ إلى رصيف معبّد بأحجار تشبه أحجار دمشق، من صوت مئذنة يكاد يطغى عليها حرف الهاء على الحاء عندما يجاهد المؤذن لسانه وهو يقول بلهجة عربية ضعيفة "أشهد أن محمداً رسول الله"، حيث إنك ترى الجامع الأموي في كل مسجد تدخله، تتذكر القمح المبعثر على الأرض، ولون الحمام الرمادي وهو يلتقطه بمنقاره ويحلّق على أكتاف المساجد.
تتذكر صوت زخّات المطر عندما تمتزج بالتراب، وتشتمّ رائحة عبقٍ لا توجد في أنحاء العالم، ثم تتذكّر ضوء البلدية، ذلك البرتقالي الذي كان يختلط مع لون الليل والنسيم، وكان بينهما ظِلك أنت.
في الأشهر التالية من الغربة تصبح تلك المشاعر أشبه بروتينٍ يومي، ويقل الشعور بها، تختنق وكأنك تحت الماء من دون أوكسجين، تنضغط ولا تستطيع أن تنفجر، تذوب كقطعة سكر وحيدة في قدح كبير، وتُمسي تلك الصور في حقل الماضي، ولا تظل إلا ذكريات تأتيك عند الشرود.
في المرة الأولى قد تفيض عيناك بعض الشيء، ولكن بعد فترة ستجفّ حتماً، والشرود سيلازمك كثيراً، ستشرد بتفاصيل الثياب التي تركتها وحيدة في خزانتك المتواضعة، والكرات الزجاجية التي كنت تلعب بها في طفولتك، وحتى جلاء المدرسة أيضاً، والأعظم من كل شي عائلتك والوطن.
في السنة الأولى من الغربة
يتغيّر كل شيء، حتى أنت أيها القارئ، ويتلاشى الحنين إلى الوطن رويداً رويداً.
أتساءل هل يعتبر هذا خيانة للوطن؟
وهكذا دائماً ما تنشب في مخيلتي حرب من الأفكار، وينتصر الحنين إلى الوطن، ولكن يرتفع مكيال العقل لأعود للحرب ثانيةً، ستشعر بتعطّش إلى الجانب الروحاني، وإياك ألا تسقي روحك من هذا الجانب، اسقِ كيانك بشغف، وكن مع الله، فهو أقرب إليك من حبل الوريد، وإن فعلتَ العكس فستزيد ضياعك ضياعاً آخر.
في السنة والنصف الأولى من الغربة، تنظر إلى المرآة وتُحملق فيها، تتحسّس لحيتك بأطراف أصابعك، وتتذكر صوت أُمك وهي تقول: "كم كبرت يا ولدي"، تتلمّس رأسك، وتبعد بعضاً من شعرك نحو جهة ما، وترى بعضاً من الشعر الأبيض، فعندها تبتسم ابتسامةً يصعُب تفسيرها كثيراً.
تعود إليك شردة بسيطة مع صوت الماء المتدفق من الصنبور، وصوت زفيرك الذي يتساءل قائلاً: أين أنا؟ ولماذا أنا هنا؟ وتطرح أسئلةً ما لها من جواب.
وفي السنة الثانية من
الغربة تتذكر المتنبي:
بِمَ التّعَلّلُ لا أهْلٌ وَلا وَطَنُ ** وَلا نَديمٌ وَلا كأسٌ وَلا سَكَنُ
دعْك من المتنبي، وتذكّر شيئاً أعظم، أغمِض عينيك وتذكر وجه أُمك ويديها الرقيقتين المجعّدتين، تذكّر ابتسامتها وطرف أسنانها، وصبرها ومدى تفهمها لك، تذكر صلاتها ودعاءها وثوبها الذي كنت تشتمّ به رائحة خبزها المميزة، تذكر كل شيء يخصها، فالذكرى مع حذاء أمي ثروة لا تقدر بثمن.
رأسي الآن مليء بالضجيج، ضجيج لا يشبه ضجيج الموسيقى الهادئ، حتى الأصوات المزعجة وإن كانت أنيناً تُعتبر موسيقى، وكل البلاد تُعتبر أوطاناً، وكل الأوطان التي تحيا بها تُجبرك على التوطّن.
الوطن يا عزيزي حيث يجتمع الجميع، جميع من تحب، كنت أؤمن أن الوطن هو الانتماء إلى وطن محدد، ولكنني كفرت بهذا!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.